صدر عن مركز الإمارات للدراسات السياسية والإستراتيجية كتاب جديد عنوان "ثقافة الدهو فى المحيط الهندي" من تأليف عبد الشريف الكتاب يرى أنه بحلول القرن الخامس عشر نُضج مجتمع المحيط الهندى العالمى، وهى عملية استغرقت قرونًا متتالية من التطور. فقد ازدهر التبادل التجارى والاجتماعي- الثقافى بين البيئات والمجموعات المتناثرة على جنبات المحيط الهندي.
وقد ساهم نظام الرياح الموسمية السائد فى المحيط الهندى فى وسم هذا التواصل باليسر والسهولة. وخلال القرون الخمسة عشر الأولى، تنوعت أنماط التجارة والسلع والأشخاص وفقًا للظروف التاريخية، ولكن على مدى فترة طويلة من الزمن، تبلور ذلك فى شكل حوار بين الحضارات. ولم تقتصر آثار هذا التواصل على حواف المحيط الهندى من سواحل المنطقة السواحلية إلى الأرخبيل الإندونيسي، بل طورت مهمة مع عالم البحر الأبيض المتوسط فى أقصى الغرب والإمبراطورية الصينية فى الشرق الأقصى.
كان المحيط الهندى عالمًا لا تهيمن عليه أى قوة عظمى محتكرة بمفردها، إنما يسوده مفهوم التجارة الحرة الذى ازدهر فى ظله عدد لا يحصى من دول المدن التى كانت بمثابة موانئ. ويُقال مثلاً إن ساحل شرق أفريقيا شهد عصره الذهبى فى القرن الخامس عشر عندما كان على طول الساحل السواحلى نحو 37 دولة مدينية ساحلية. ولم تكن تسيطر عليه أى جنسية بمفردها، إنما مزيج من المجتمعات البحرية التجارية، منهم العرب والإيرانيون.
وبحلول القرن الخامس عشر هيمن عليه الغوجاراتيون والعديد من المجتمعات الساحلية الأخرى التى شاركت فى التجارة المحلية والبعيدة المدى. وقد طوروا بمجموعهم تقنية بناء السفن التى كانت حرفة مشتركة حول حافة المحيط الهندي، تمثلت فى مراكب الدهو الشراعية فى النصف الغربي، ولكن مع بعض الاختلافات المحلية التى تتناسب والظروف المحلية. كما أنتجوا معرفة ملاحية واسعة حول طرائق استغلال إمكانات الرياح الموسمية التى تميز بها المحيط الهندي. وقد أصبحت جزءًا من فلوكلور تلك المجتمعات المترامية على جنبات المحيط الهندي؛ وتم تدوينها كذلك فى العديد من المختصرات المتنوعة التى تركها الملاح العربى المعلم أحمد بن ماجد، والأميرال التركى سيدى على شلبي، والملاحون الغوجاراتيون المجهولون.
وقد تاجر البحارة والتجار فى المحيط الهندى عبر البحار، ووزعوا مواد خامًا نادرة ومواد غذائية وكماليات وسلعًا مختلفة مصنعة بين المناطق البيئية المتكاملة. وبذلك أوجودوا ساحة تجارية واسعة تصدَّرت فيها الأوانى الشرق أوسطية والصينية موائد الأثرياء والنخب، وهى اليوم مبعثرة فى المواقع الأثرية فى جميع أنحاء المحيط. كانت العرائس فى الهند البعيدة يرتدين أساور العاج، فى حين كان الصينيون فى أقاصى الشرق يصنعون نقوشه المعقدة الفريدة مستخدمين العاج المجلوب من أفريقيا أقصى غرب العالم آنذاك. وفى الوقت الذى وصل فيه الأوروبيون، كان الجميع تقريبًا من رأس الرجاء الصالح إلى الصين يلبسون ثيابا من المنسوجات الهندية تكسوهم "من الرأس إلى القدم"، وأصبحت ثياب السارونغ الإندونيسية زيًا تقريبًا للذكور فى جميع أنحاء حافة هذا المحيط. كما أن سلع التبادل هذه لم تكن مجرد بضائع مادية اقتصادية، إنما كانت كذلك تجسِّد القيم الثقافية أيضًا. فالتمر مثلاً، ليس مجرد ثمرة لشجرة النخيل الصحراوية أو قوت حيوى للبدو، إنما هو طعام شهى شبه مقدس يُفطر عليه الصائمون فى رمضان حتى فى الجزر الاستوائية من إندونيسيا وزنجبار.
وقد تجاوزت نشاط البحارة والتجارة النقل والتجارة، إلى المشاركة فى عملية اجتماعية وثقافية بعيدة المدى تحولوا بموجبها مثلما قاموا بدورهم بتحويل عالم المحيط الهندي. وقد لعبت الرياح الموسمية فى هذه العملية دورًا حاسمًا فى تحقيق التكامل فى عالم البحار بتسهيلها نقل البضائع عبر البحار. ولأن البحارة طالما اعتبروا ناقلى جينات، فإن الرياح الموسمية التى تهب فى أحد الاتجاهين خلال موسم ما ثم تهب فى الاتجاه المعاكس فى الموسم التالي، كانت تضطر الناس المبحرين لقضاء فترات طويلة بين هذين الموسمين بعيدًا عن الوطن. وقد كان الرجال، كما هى الحال فى العديد من الثقافات، هم الذين يميلون إلى أن يكونوا بحارة أو تجارًا فى مناطق بعيدة. وكانت النتيجة الحتمية لهذه الأنماط من حركة الناس تفاعلاً حميمًا بينهم وبين السكان المحليين؛ امتد من السوق إلى أماكن راحتهم.
واضطرتهم ظروف حياتهم لتعلم اللغات المحلية فى أعمالهم من بيع وشراء، وسرعان ما كان كثيرا منهم يعتبر اللغة الجديدة لغته الأم؛ وفى خضم ذلك، كانوا يُدخلون بعض كلماتهم مع اتساع نطاق مبادلاتهم. لكن البحارة لم يتوقفوا عند تعلم اللغة، فقد كان كثير منهم يتزوجون هناك. وأظهرت دراسة جينية حديثة فى زنجبار أنه فى حين أن الجينات الموروثة عن طريق الأب تكشف عن سلسلة كاملة من الصلات عبر المحيط حتى أوقيانوسيا، فإن تلك الموروثة عن طريق الأم تعود إلى جنوب الصحراء الأفريقية على نحو ساحق. فى أثناء ذلك كانت الصلات العائلية تمتد فى كل الاتجاهات عبر المحيط الهندي، ناسجة شبكة اجتماعية وثقافية كثيفة، تتدفق إلى جوارها المأكولات وأنماط اللباس واللغة والأدب، فصلاً عن الغناء والرقص والتقاليد الموسيقية، لتخلق حلبة متعددة الثقافات.
وفى الوقت الذى كانت فيه هذه التفاعلات العابرة للمحيطات تتخذ صورة تعابير اجتماعية وثقافية، فإنها كانت تستند أساسًا إلى التبادل التجاري. والتجارة تفرض منطقتها، فهى تزدهر عمومًا بين بيئات مختلفة لديها ما تتبادله تلبية لاحتياجات مختلفة. وهذا غالبًا ما يعنى التبادل بين الثقافات المختلفة على أرضية مشتركة، على سبيل المثال على السفوح بين الجبال والسهول، أو على طول الساحل حيث يلتقى البحر بالأرض. وعلى الرغم من المبالغة فى مشاعر الكراهية فى كثير من الأحيان بين الناس من مختلف الثقافات، فإنهم تاريخيًا كانوا يستجيبون دائمًا لمنطق السوق ضمانًا لاستمرار التجارة السلمية، فيوقفون العداءات، إن وجدت، فى مواسم معينة أو أيام محددة من الأسبوع. لقد قرَّبت هذه التبادلات كثيرًا بين مختلف الناس، بحيث تطلب ذلك درجة معينة من التفاهم بين شتى الثقافات، حرصًا على المنفعة المتبادلة. وبالتالى كانت التجارة غالبًا فرصة لتبادل السلع الاقتصادية ونقطة التقاء وتقدير للقيم الثقافية لدى شتى أطراف العملية التجارية. فالتسامح ليس سوى المرحلة الأولى فى عملية قد تتطور إلى الاحترام، وحتى الاحتفال بالفرق.
كان المحيط الهندي، وربما هو فى ذلك أكثر من البحر الأبيض، ساحة للحوار المفتوح بين أناس متعددى الثقافات والأديان. تستند نظرية ايرين Pirenne إلى افتراض أن ظهور الإسلام قسم منطقة البحر الأبيض المتوسط بين الساحل المسيحى الشمالى والشواطئ المسلمة فى الجنوب والشرق. وعلى الرغم من أن فرناند بروديل Fernand Braudel يتحدى هذا الطرح باعتباره مبالغة تتغاضى عن التفاعلات الدنيوية والاقتصادية والثقافية الجارية تحت المظهر السياسي، فليس هناك من ينكر الحروب البحرية فى أثناء الحروب الصليبية، والحروب الأوروبية العثمانية فى القرون المتأخرة. ومن ناحية أخرى، يصعب العثور على حوادث مماثلة لصراعات دينية كبيرة فى المحيط الهندى قبل قدوم البرتغاليين. بل على العكس من ذبك، كانت شعوب كثيرة من معتقدات شتى تقطن الشواطئ المحيطة بجنبات المحيط الهندي، وكلٌّ يمارس معتقداته دون تنغيص، كالهندوس والبوذيين والزرادشتيين ومسيحيى القديس توما على الساحل المالاباري، ويهود كوشين، وجميع طوائف المسلمين، فضلاً عن أعداد أخرى كبيرة من الناس. وقد وفرت شبكة الملاحة والتجارة الواسعة نطاقًا كان يتحرك فيه بسهولة كبيرة العلماء المسلمون والمتصوفة والرهبان والبوذيون، فضلاً عن التجار المسالمين الذين كانوا يعتنقون ديانات مختلفة. وكان كلٌّ يدعو إلى معتقده بالإقناع، وهو ما لم يكن ممكنًا إلا فى بيئة يسودها التسامح الديني.
فهذا لوح تشنغ خه بثلاث لغات مختلفة لثلاث ممارسات شعائرية فى ثلاثة معتقدات متباينة، كتبه أميرال من أقوى دولة عظمى آنذاك. لذا فإن من الصعب تفسير هذا سوى بأن مثال رائع للتراث الثقافى المتعايش فى منطقة المحيط الهندى قبل مجيء الأوربيين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة