ما أحدثه فيلم الممر فى الوجدان المصرى، وفى تحسين المود العام للمصريين، يسترعى الانتباه، ولا يجب أن يمر علينا مرور الكرام، فهو ليس مجرد فيلم ناجح، توافرت له عناصر الإنتاج المبهرة: من قصة جيدة، إلى مخرج وممثلين يمتلكون أدواتهم، ولكن الأمر فى رأيى يتجاوز ذلك بكثير، وأكاد أجزم بأنه لو أنه لدينا عشرة أفلام من نوعية "الممر"، لن نجد بعض شبابنا يتحدثون بجهل فى قضايا تتعلق بمصيرهم، وبمصير ومستقبل هذا الوطن بكثير من الجهل، وبعضهم يسطح الأمور، ولا يدرك مقتضيات الأمن القومى المصرى فى حدها الأدنى، ولا يعرف أصلا من هو عدوه الحقيقى، وتبلغ المهزلة منتهاها عندما تسأل بعض أولادنا عن حرب أكتوبر فلا تجده يعرف الحد الأدنى من المعلومات، ولا تجده يعرف لماذا خضنا كل تلك الحروب، ولماذا ... ولماذا؟ إذا لم يعرف تاريخه، وإذا لم يعرف لماذا بذلنا ما بذلنا من غال ونفيس دفاعا عن سيناء، فلن يدرك أبعاد معركة اليوم التى لازالت دائرة رحاها فى شمال سيناء، ومن هو عدو اليوم الذى غير جلده، وأصبح من بنى جلدتنا، وبدلا من أن يتخندق معنا فى نفس جبهتنا دفاعا عن العرض والشرف وعن هذا الوطن الذى نحتمى به ونتوضأ بنسماته، راح فى خندق واحد مع كل أعداء الوطن، يحارب حربهم ويتبنى أجندتهم .
نحتاج بدل الفيلم عشرة، ولا توجد مشكلة، كما روجوا فى وجود القصة، فقصص أبطالنا، وما صنعوه فى حرب الاستنزاف، وفى حرب أكتوبر، ولا زالوا يصنعونه كل يوم فى الحرب على جيوب الإرهاب فى شمال سيناء، تفوق فى جمالها، وروعتها، وفى تفاصيلها الإنسانية، خيال أعظم كتابى الدراما، دراما الواقع الذى صنعه ويصنعه جنودنا كل يوم أكثر جمالا، وشرفا، وروعة، ولن تكون هناك مشكلة فى أن يعود للمنتج أمواله، تجربة فيلم "الممر" أثبتت عكس ما كان يتم التعامل معه باعتباره مسلمات: كانوا يعتقدون، ونحن كنا نعتقد للأمانة أن أى فيلم حربى محكوم عليه بالفشل، وأنه سيكون "فيلم تسجيلى"، وأن المنتج الذى سيتصدى لإنتاجه، سيكون آخر أعماله لأنه سيفلس بعدها، ولكن أثبت فيلم الممر بإقبال الناس عليه، حتى فى الدول العربية، كذب هذا الاعتقاد، كنا نعتقد أن الحس الوطنى، والمشاعر الفياضة لقطاع لا بأس به قد راحت إلى غير عودة، أو أنها تراجعت وأنها "بعافية"، ولكن أثبت الفيلم عكس ذلك واكتشفت وأنا أكفكف دموعى التى انسابت منى رغما عنى وأنا أشاهد الفيلم فى قاعة السينما أن غيرى كثر فى نفس الصف يبكون حبا وخوفا على الوطن وعلى رجاله، ويصفقون فرحا عند عبور الأبطال، وتحديهم للحظات الانكسار والهزيمة.. جمال الفيلم أنه لم يكن عن حرب أكتوبر، ولكنه كان عن حرب الاستنزاف التى لا تقل روعة، فيلم يحكى عن خروج النصر من رحم الهزيمة والانكسار إذا توافرت العزيمة والرغبة والإرادة، وهذه رسالة سياسية ومجتمعية قوية، تدركها العقول الواعية، ورسالة مفادها أن مصر مهما تعثرت فلن تموت، وأنه علينا أن ننتظر مع شمس كل يوم جديد مصر القوية العفية، والتى تليق بنا وبتاريخها التليد، تماما كما قال أحمد عز لجنوده: انتظروا مع شمس كل يوم جديد رفع علم مصر على كل شبر محتل فى سيناء.. هذا عنصر من عناصر نجاح الفيلم الذى أراه مفصلياً فى تاريخ السينما المصرية، وجاء ابناً شرعياً لها بعد سنوات اعتقدنا أن رحمها قد شاخ، وعقر، ولم يعد يعطينا الجديد القيم.
السينما الأمريكية صنعت هالة المقاتل الأمريكى وأسبغت عليه صفات جسمانية، ونفسية بالتأكيد ليست فيه، وصنعت منه البطل الذى لا يقهر وسيحسم أى معركة يخوضوها، والمدافع عن القيم والمبادئ الإنسانية، الذى يغيث الملهوف فى شتى أرجاء الدنيا، الذى يدعم الديمقراطيات فى العالم، ويقضى على الطغاة إلى غير ذلك من تفاصيل الصورة التى صنعتها هوليود للجندى الأمريكى، فأين نحن؟، السينما المصرية عريقة، وقوية، لماذا لا يكون لها دورها فى الحرب على الإرهاب، لماذا لا يكون هناك مسلسلات تتحدث عما يحدث لأولادنا فى سيناء، لماذا لا يكون عندنا عشرات الأفلام، كما قلت، التى تتحدث عن معجزات أبطالنا الحقيقين، أين الفيلم الذى يجب أن يؤرخ للأسطورة الشهيد المنسى، وأمثاله؟، صدع بعض العاملين رؤوسنا بالحديث عن الواقعية عندما ينقلون قاذورات الشارع المصرى، والعشوائيات ومقالب القمامة والبشر باعتبارها ترجمة للواقع، فنقلوا لنا ما يحدث فى غرف النوم تحت دعاوى الواقعية، وأفسدوا أجيالا بصناعة البطل الشعبى المجرم البلطجى الذى يأخذ حقه بذراعه، وبتشويه الوجدان بنماذج مشوهة، وكانت النتيجة أن طفحت المجارى فى بيوتنا، وزادت معدلات الجريمة، والانحرافات الاجتماعية، هذه الأفلام لا تعكس الواقع، ولكنها للأسف صنعت بقبحها، هذا الواقع السيئ، وأصبح فيلم "هى فوضى" نموذجا لفوضى عاشتها السينما المصرية وساهمت فى تشويه الواقع، وقالوا إنه تنبأ بالثورة، وهو فى الحقيقة صنع الفوضى والانفلات المهيئ لأى ثورة أو لنقل أى فوضى غير خلاقة!.
لا أريد بالطبع أفلام وعظ، ولكنى فى الوقت نفسه لا أريد أفلاما تسبغ شرعية على الانحراف الأخلاقى، أو تروج للشذوذ تحت دعوى ترجمة الواقع، لا أريد أفلاما تروج للجريمة ولا أفلاما تعزز من لغة العنف كما حدث فى "عباس الأبيض" الذى شوه حياة المصريين ولا زال فى كل مرة يعرض فيها.. يكفى أن أقول لكم أن طالبا ألمانيا تردد فى زيارة مصر التى يحبها ويعشقها ودرس آثارها، ولكنه يخشى على نفسه مما يحدث فى شوارعها، وقال لابنى: عندما أردت أن أدرس مصر قبل زيارتها شاهدت هذا الفيلم (إبراهيم الأبيض) .. هل هذا يحدث فى شوارعكم ..؟ أنا خائف وألغيت سفرى لمصر .. ولم تفلح كلمات ابنى له بأن هذا مجرد فيلم فى تهدئة روعه أو مخاوفه .
هذه هى خطورة الدور الذى تلعبه السينما فى خلق صورة صادقة عن المجتمع من عدمه، ويجب ألا ننسى أن بعض العرب فى الخليج فى فترة السبعينات والثمانينات كانوا يعتقدون أن مصر ما هى إلا شارع الهرم!!
أرجو ألا يكون فيلم الممر مجرد تجربة عابر والسلام، ولكنها تجربة ناجحة مطلوب مننا جميعا أن نبنى عليها بداية من صناع السينما وانتهاء بالدولة المصرية التى يجب أن تقف وراء هذه النوعية من الأفلام.. ما يصنعه فيلم من نوعية "الممر" يعادل سنوات من العمل الجاد فى محاولة زرع قيم المواطنة والوطن فى نفوس أولادنا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة