أطلق المشاركون بمؤتمر الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم، المنعقد تحت عنوان "الإدارة الحضارية للخلاف الفقهى" وثيقة التسامح الفقهى والإفتائى، حيث ألقى بيان الوثيقة الشيخ محمد حسين مفتى القدس والتى جاء فيها:
لقد ظهرت موجات عاتية من التعسُّف والكراهية والتعصُّب المقيت عَوَّقت عبر التاريخ جهود مسيرة الفقه والإفتاء. وقياما بمتطلبات العصر وتدعيمًا لمبدأ بقاء الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان صدرت هذه الوثيقة ووقع عليها أعضاء الأمانة.
وتُضيف الأمانة العامة لمبادراتها هذا الإصدار النوعى من الوثائق لتقرير مبادئ التسامح ونبذ التعصب فى مجال الإفتاء والفقه الإسلامي؛ مستهدفين بذلك:
أولًا: نبذ التعصب المذهبى المهدد للتماسك الاجتماعى للدول الوطنية والمجتمعات الإنسانية.
ثانيًا: جعل التجربة المذهبية معينًا للإفادة، يُستثمر إنسانيًّا ليكون عونًا على تقدُّم قانونى واجتماعى وأخلاقي.
ثالثًا: مواجهة محاولات التطرُّف لاستغلال الاختلاف الفقهى فى نشر الكراهية.
تجمع الوثيقة بين التأصيل والتنفيذ، وتضع العلم بجوار العمل، فتؤسس هذه الوثيقة لمبادئ التسامح الفقهى والإفتائى التى تنطلق من الإدارة الحضارية للخلاف الفقهي.
وتأتى الوثيقة لتؤكد على ما يأتى :
أن الاختلاف سنة الله تعالى بين خلقه، وهو باب للتنوع الثقافى والتكامل الدينى والمعرفى يُحتَرَم ويُستثمر لتطوير الاجتماع الإنساني.
وأن الإدارة الحضارية للخلاف طريق يُتَّبَع لتجديد الخطاب الدينى وللرُّقى الحضارى ومعالجة القضايا والمشكلات والتحديات المعاصرة.
وأن للاختلاف أخلاقيات ينبغى التزامها ولإدارته إجراءات ومعارف ومهارات يجب اتباعها.
وفى مزج فريد بين الحياة والدين، وبين النصوص والواقع تنص الوثيقة على أن مراعاة المقاصد بما فيها من إدراك الواقع المعيش وترتيب الأولويات والموازنات هى الميزان الأكبر لضبط عملية إدارة الاختلاف، ومراعاة المقاصد حفاظ على الدين والنفس والمال والعرض. وترفض الوثيقة الولاء لجماعة أو تنظيم دينى بدعمه أو الدعوة إليه على حساب الاستقرار الوطنى طريق للتعصُّب والكراهية يُضاد مقاصد الشريعة الإسلامية.
كما ترفض الوثيقة المحاولات الاحتكارية للإسلام، فالإسلام دين إلهى جامع للمذاهب المعتمدَة؛ ليس حكرًا على مذهب دون آخر.
لا شك أننا بحاجة إلى موازين جامعة لإحسان التعامل مع المذاهب الموروثة لنتمكن من الاستفادة منها واستثمارها بدلا من إلغائها أو التعصب لها وقد أظهرت الوثيقة هذا فى عدة فقرات.
فاعترفت بالمذاهب وأقرت المذهبية فالمذاهب الفقهية المعتَبَرة هى مدارس علمية لها مراجعها وأصولها لا ضير من تبنى أحدها أو التخيُّر منها فقهًا وإفتاء.
وأنكرت الموقف المتطرف من المذاهب بعدم الاعتداد بالمذاهب وإقصائها والذى يُعدُّ تطرفًا كالتعصب لها.
وفى سبيل تثبيت المنهج العلمى واستعادة الثقة أكدت الوثيقة على أن المرجع لكل مذهب فقهى تأصيلًا وفهمًا ومنهجًا هو الكتب المعتمدة فيه وليس الآراء الشاذة، والمرجع لكل منهج واختيار إفتائى هو ما تنشره المؤسسة الافتائية.
وهناك خلقان مختلفان بل متضادان بلا شك هما التعصب الذى يلغى الآخر ولا يعترف باجتهاده والتسامح فالتعصُّب بقول أو بفعل لمذهب أو لرأى يلغى به الآخر فى محل الاجتهاد هو أمر بمنأى عن الشريعة الإسلامية ومواجهته ومعالجته ضرورة على المعنيين بأمر الفقه والإفتاء. وأن التسامح كما يعم المسلمين يعم غيرهم كما جاء فى الوثيقة.
ومن الموروث الأخلاقى أن يُحمَل ما يصدر من المعنيين بالفقه والإفتاء على أحسن المحامل تطبيقًا لمبدأ حسن الظن.
وكشأن وثائق ومبادرات الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم لا يفوتها الجانب التنفيذى على مستوياته المختلفة ليخرج التسامح من جدار التنظير إلى فضاء التنفيذ ويغطى جوانب الحياة فيحدث التجديد المطلوب بتعهدات قاطعة وقع عليها أصحاب المذاهب المختلقة.
لقد تعهدوا باحترام الاختلاف الفقهى والإفتائى، وذلك بالعمل على أن يخلو المحتوى العلمى المعاصر فى مجالى الفقه والإفتاء من كل ما يدعم الانتقاص من مذهب أو رأى معتَمَد.
وتعهدوا بدعم التجديد المذهبي؛ وذلك بتثمير الاتجاهات المذهبية بعرضها على الواقع المعيش لتسهم فى معالجة القضايا والمشكلات المعاصرة.
لقد غطت الوثيقة جوانب حياتية مختلفة بمقترحات تنفيذية لتصل إلى مقصودها ففى الجانب القانونى تعهد الموقعون باتخاذ الإجراءات اللازمة لدعم التسامح الفقهى والإفتائى على النطاق الرسمى والقانونى، وذلك بما يلي:
دعوة الدول والهيئات المعنية إلى رفض كلِّ مؤسسة أو جمعية أو هيئة فقهية أو إفتائية تدعو إلى الكراهية أو العنصرية أو العنف أو تسوِّق إلى أغراض حزبية مجافية للمبادئ العلمية أو الآليات المعتبرة للإفتاء.
دعوة الهيئات التشريعية فى العالم إلى الإفادة من الفقه المذهبى فى إعداد القوانين والتشريعات.
تجريم كل اعتداء من شأنه أن يُثير الفتنة أو الكراهية بين أتباع المذاهب المختلفة.
وفى الجانب التعليمى تعهد باتخاذ الإجراءات اللازمة لنشر ثقافة التسامح الفقهى والإفتائى على النطاق التعليمى، وذلك عن طريق:
تبنى منهجية الانطلاق فى البحث الفقهى والإفتائى من المذهب السائد المستقر فى كل مجتمع ثم المقارنة بالمذاهب المعمول بها جميعًا.
إقامة الأنشطة التعليمية المشتركة بين الطلاب من أتباع المذاهب المختلفة.
إقامة الدورات التدريبية المعنية بمهارات الحوار وأخلاقياته وكذلك بآليات العصف الذهنى والتدريب على الاجتهاد الجماعى، وما يتطلبه الأمر من الأنشطة المعنية بضبط المعلومات والمعارف الفقهية والإفتائية.
وفى مجال البحث العلمى تعهدوا باتخاذ الإجراءات اللازمة لدعم التسامح الفقهى والإفتائى على النطاق البحثي؛ وذلك عن طريق:
التوسُّع فى إنشاء المراكز البحثية الداعمة للتسامح الفقهى والإفتائي.
العناية بالجهود البحثية السابقة فى مجال التسامح المذهبى والطائفى والإفتاء طباعة وتحقيقًا.
دعم جهود الفقه الإسلامى فى الجامعات والمراكز البحثية؛ ليكون ذلك عونًا على الاستثمار المذهبى فى القوانين والمجال الاجتماعى والإنساني.
وعلى النطاق الإعلامى تعهدوا باتخاذ الإجراءات اللازمة لدعم التسامح الفقهى والإفتائى على النطاق الإعلامي؛ وذلك عن طريق:
·دعم الخطاب الإعلامى الرشيد.
·الدعوة إلى تجريم أى اعتداء إعلامى على رموز المذاهب المختلفة دون مساس بحرية الرأى والمناقشة بين أهل العلم فى قضايا الاختلاف فروعًا وأصولًا.
·دعم البرامج الإعلامية المشتركة لعلماء المذاهب.
إن هذه الوثيقة مع أخواتها ومثيلاتها من وثائق التسامح والتى من آخرها وثيقة الأخوة الإنسانية التى وقعها مؤخرا فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر والبابا فرانسيس بابا الفاتيكان تأتى لتنظم عقدا فريدا معبرا عن خطاب إسلامى إنسانى عالمى يواجه خطاب الكراهية ويهدف إلى الاسهام الحضارى الحقيقى فى دعم الحوار المعرفى والعملى على السواء.
الشكر موصول للدكتور شوقى علام مفتى جمهورية مصر العربية رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم على دوره المهم فى صياغة هذه المبادرة المهمة فى هذا التوقيت.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة