على مدار التاريخ الطويل للحضارة الإنسانية، يظل العالم مدينا للأفكار المجنونة فى تحقيق الطفرات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى، بعدما حولت حياة البشر من التقليدية والسكون إلى النشاط والحركة، وخلقت ملايين الحرف والصناعات وفرص العمل، وساهمت بصورة مباشرة فى صعود أمم وشعوب لسيادة العالم خلال المئة عام الماضية، وأخرى إلى الذيل والمؤخرة.
الأفكار المجنونة لا أقصد بها المستحيلة أو الخيالية، بل المبتكرة الثائرة على التقليدية، فلم يكن اختراع المصباح الكهربائى سوى فكرة مجنونة من توماس أديسون، الذى قدم ما يقرب من ألف اختراع للبشرية، وكذلك ما فعله جورج ستيفنسون، المهندس الإنجليزى الشهير، الذى نجح فى إنشاء أول خط سكك حديدية فى العالم يستخدم القطارات البخارية، وصولا إلى ما قام به ألكسندر جراهام بيل، عندما اخترع الهاتف، بل أكثر من ذلك كانت ذروة الأفكار المجنونة عندما ابتكر جون بيرد، الأسكتلندى جهاز التليفزيون، لينقل للناس الوقائع والأحداث بالصوت والصورة، لدرجة أن البعض هاجمه عندما رأوا أن هذه الآلة الجديدة، واعتبروها وسيلة شيطانية تنقل للناس الصوت والصورة، وقد رفضتها الكنيسة فى البداية كما رفضت الطباعة والكهرباء.
المجتمع غالبا ما يرفض الأفكار المجنونة فى البداية ويعترض عليها بدافع من الاتجاه التقليدى السائد، إلا أنه سرعان ما يرتد مرة أخرى نحوها بقوة، فلم تمنع الكنيسة رغم سطوتها فى القرن الرابع عشر انتشار الطباعة، حتى لو تأخر هذا الانتشار لسنوات طويلة، ولم تؤثر الشائعات التى سادت عند اختراع السيارة من أن الجان يحركها على انتشار تلك الآلة العبقرية، التى قضت على العربات التى تجرها الخيول.
الخلاصة من كل هذه السطور السابقة أن العالم يحتاج دائما إلى الأفكار الإبداعية والرؤى المختلفة، التى تقود البشرية نحو المزيد من التقدم والحضارة، والدليل على ذلك أن شركة أوبر العالمية، التى تبلغ قيمتها السوقية فى الوقت الراهن حوالى 70 مليار دولار، ومتوقع أن يتضاعف هذا الرقم خلال السنوات المقبلة، على الرغم من أنها تأسست منذ 10 سنوات فقط، ولا تمتلك سيارة واحدة، وكل ما لديها برنامج " تطبيق " يعمل من خلال الهاتف فى أغلب دول العالم، بينما عملاق صناعة السيارات فى العالم جنيرال موتورز قيمتها السوقية وصلت إلى نحو 51.3 مليار دولار وتعمل فى أسواق العالم كله منذ عام 1908 ولديها عشرات الأنواع والموديلات من السيارات.
نحن نحتاج إلى أفكار إبداعية متطورة، لنصل من خلالها إلى طفرات حقيقية، وهذا لن يحدث إلا بدعم النماذج الناجحة، وتوظيف قدرات الشباب، وتوسيع مراكز الأبحاث، والتخلص من الروتين والأدوار الوظيفية التقليدية، ومدام عفاف المسئولة عن المكتبة، والأستاذ فهمى، مدرس المجال الصناعى، فهذه النماذج أثبتت فشلها على مدار سنوات وسنوات، فعلينا أن نقدم للأجيال الجديدة فرصة حقيقية، تمكنهم من إطلاق طاقاتهم وتوظيفها بصورة أفضل.