من لبنان إلى فرنسا، ومن شيلى إلى بريطانيا، مرورا بالجزائر، هناك حالة من عدم الاستقرار السياسى تجتاح العالم، وتشتعل فى مناطق ودول متفرقة، وإن كان الاقتصاد عنوانها، فإن السياسة هى العنوان الأبرز، وطوال ما يقرب من عشر سنوات هناك تفاعل، واحتجاجات تشير لتغيير سياسى، وبقدر ما اتخذت اتجاهات درامية فى العالم العربى، انتقلت إلى أوروبا والعالم الأول سواء فى شكل تهديدات إرهابية، أو احتجاجات سياسية واقتصادية واجتماعية فى دول كانت دائما تصنف باعتبارها أكثر استقرارا مثل فرنسا وبريطانيا.
وبالرغم من تشابه الأسباب التى أدت للغضب فى فرنسا ولبنان وشيلى أو بريطانيا أو الجزائر، هناك اختلافات فى التركيبة الاجتماعية والاقتصادية واختلفت ردود الفعل وشكل الاحتجاج ونسبة العنف فى سياقات الاحتجاجات، لبنان كان الأقل عنفا، بالرغم من أن أسباب الغضب تبدو أقوى، اختلفت عن فرنسا وشيلى، حيث كانت شيلى الأكثر عنفا نظرا لطبيعة الواقع السياسى والاجتماعى فى أمريكا اللاتينية، حيث تكررت مشاهد العنف فى احتجاجات فنزويلا.
المفارقة أن الانتخابات فى فرنسا وألمانيا واستفتاء بريكست فى بريطانيا، كشفت عن تراجع لتيارات السياسة والأحزاب التقليدية، لصالح تيارات حديثة، ولدت مؤخرا، سواء لليمين الرافض للأجانب، والساعى للانفصال عن الاتحاد الأوروبى، أو تيارات احتجاجية ترفع شعارات اعتراض على غياب العدالة الاقتصادية وتركز عوائد الاقتصاد لصالح الأغنياء.
فى إبريل 2017 خاضت مارى لوبان ممثلة اليمين المتطرف الجولة الأخيرة للانتخابات الرئاسية مع إيمانويل ماكرون ما دفع النخبة السياسية التقليدية لمساندة ماكرون، بالرغم من أنهم لم يكونوا يرون فيه سياسيا ناجحا، ثم إن ماكرون نفسه لا ينتمى لأى من المعسكرات التقليدية، غادر الحزب الاشتراكى ليؤسس حزب إلى الأمام، خارج أطر الأحزاب التقليدية.
فى ألمانيا شهدت الانتخابات الأخيرة قوى صعود لليمين الشعبوى، وبالرغم من فوزها أعلنت أنجيلا ميركل بعد أقل من عام عن نيتها عدم الترشح 2021، وترك رئاسة الحزب المسيحى، حيث حقق الحزبان المحافظان الحاكمان الاتحاد المسيحى الديمقراطى، والاتحاد المسيحى الاجتماعى 33%، وحصل حزب البديل لألمانيا اليمينى القومى المتشدد على 13%، فى المركز الثالث وهو يدعم الانفصال عن الاتحاد الأوروبى ويعادى اللاجئين والأجانب، ويشبه حزب «بريكست» فى بريطانيا الذى يحمل رمزية الخروج من الاتحاد الأوروبى، برئاسة النائب نايجل فاراج، أحد أكثر المتحمسين لمغادرة الاتحاد الأوروبى. فيما يواجه رئيس الوزراء بوريس جونسون أزمة سياسية مستمرة منذ توليه فى اعقاب استقالة تريزا ماى.
فى فرنسا أيضا يواجه ايمانويل ماكرون منذ مايو الماضى احتجاجات السترات الصفراء التى بدأت بالاحتجاج على الضرائب والتردى الاقتصادى للطبقة الوسطى، وتطورت للمطالبة باستقالة ماكرون.
كانت الضرائب والغلاء محركات لغضب السترات الصفراء فى فرنسا، وانتقلت إلى بعض دول أوروبا وتراجعت بعد الاستجابة واتخاذ خطوات اجتماعية واقتصادية، لكن تبقى احتمالات اشتعالها قائمة، ولنفس الأسباب فى وقت متزامن فى لبنان بالشرق الأوسط وشيلى فى أمريكا اللاتينية.
كان فرض ضرائب على الاتصالات فى لبنان مقدمة لإشعال غضب ترجمه خروج ملايين اللبنانيين، تطورت المطالب إلى رفض الطبقة السياسية والفساد وتدعو إلى حكومات ليست طائفية.
ولنفس الأسباب فى شيلى، أدى رفع أسعار النقل لإشعال مظاهرات، تحولت بسرعة إلى كرات لهب أشعلت النار فى محطات المترو والحافلات والمؤسسات.
هناك اختلافات واسعة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا بين فرنسا ولبنان وشيلى، فرنسا دولة من العالم الأول لديها بنيان اقتصادى قوى، واستقرار سياسى على مدى عقود، وقدرة مؤسسية على التفاعل مع الاحتجاجات، ومع هذا لم يخل الأمر من مصادمات، قابلتها عمليات قبض وتوقيف واعتقالات لمتظاهرين اتهموا بتجاوز حدود التظاهر.
على العكس فى لبنان حيث الواقع الاقتصادى أكثر صعوبة وعجز الموازنة والفقر والغلاء وصل إلى مرحلة معقدة، ناهيك عن أزمات فى الكهرباء والمياه، والخدمات الصحية والتعليم، فضلا عن واقع سياسى هش تحكمه اتفاقات ترسخ الطائفية، بدا أمرا واقعا، حتى هزته التظاهرات الأخيرة، بشعارات تطالب بدولة واحدة لكل اللبنانيين، وتجاوزت المطالب الاقتصادية والاجتماعية إلى مطالب سياسية، تدين الطبقة السياسية عموما بطوائفها، وترى أن الواقع السياسى ربما يساهم فى استمرار الفساد والفقر والاختلال الاقتصادى وغياب العدالة.
ومن المفارقات أن تتجه مطالب اللبنانيين الى توحيد، بينما تتجه مطالب اليمين الأوربى للانفصال. وبالرغم من تعقد الواقع الطائفى والسياسى، إلا أن الاحتجاجات التقت بحجر فى بركة ساكنة، بما يرتب على القوى السياسية التقليدية أن تنتبه لتحولات كمية، تتنامى وتكشف عن فشل صيغ تقليدية مستقرة تحتاج إلى تعديل يناسب التحول فى الواقع.