حدث بالفعل.. حينما كان لقاء القمة فى مصر شيئا عاديا.. فيديو نادر عمره 36 سنة يجمع فاروق شوشة والأبنودى وأمل دنقل.. الخال: كتبت العامية كى أصل للناس.. وشاعر الرفض: أنا شاعر وطنى والقصيدة المباشرة "سذاجة"
الجمعة، 25 أكتوبر 2019 05:24 م
الأبنودى وأمل دنقل وفاروق شوشة
كتب محمد عبد الرحمن
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مرت منذ أيام الذكرى الثالثة على رحيل الشاعر الكبير فاروق شوشة إذ رحل فى 14 أكتوبر عام 2016، بعد مسيرة إبداعية كبيرة كان يملأ بها الشاعر الكبير الوطن العربى بالشعر والثقافة والإبداع.
وجاء ذلك فى حلقة نادرة من برنامج "البرنامج الثقافى" للإعلامى والشاعر الكبير فاروق شوشة، جمعت بين كلا من الشاعرين الكبيرين عبد الرحمن الأبنودى وأمل دنقل، والتى أذيعت فى التليفزيون المصرى عام 1983، عام رحيل أمل دنقل.
وفى الحقيقة فإن إنجاز الشاعر الكبير فاروق شوشة، فى الشعر كبير، ولا يتوقف فقط على ما كتبته يده من قصائد بالغة الرقة، لكن أيضا يمتد على تلك المقدرة الكبيرة التى كانت تمكنه من صنع حالة ثقافية كبيرة فى الإعلام العربى، حيث أسهم ببرامجه الثقافية سواء فى الراديو أو التليفزيون، فى تنمية الوعى الثقافى العربى، من خلال تقديمه مواد ثقافية وإبداعية مميزة قلما نجدها الآن.
الشاعر الراحل فاروق شوشة، قدم برامج تليفزيونية وإذاعية مع كبار المبدعين، ومن بين تلك اللقاءات، تلك الحلقة النادرة التى قدمها من برنامج "البرنامج الثقافى" وجمع فيها الشاعرين الكبيرين عبد الرحمن الأبنودى وأمل دنقل، والتى أذيعت فى التليفزيون المصرى عام 1983، عام رحيل أمل دنقل.
فى الحلقة كان أمل دنقل، مريضا يعالج فى معهد الأورام، وعندما يتذكر فاروق شوشة، ما حدث فى تلك الحلقة يقول "لقد اتفقنا أنا وعبد الرحمن الأبنودى على "سرقة" أمل دنقل من معهد الأورام إلى أستوديو البرنامج.
اللقاء جمع قطبين شعريين مختلفين، أو هكذا يبدوان، الخال يكتب العامية وشاعر الرفض يكتب قصيدة الفصحى، لكنهما فى الحقيقة صديقان، خرجا من البيئة نفسها، وانطلق كل منهما فى تجربته الخاصة، كان الأبنودى إحدى علامات شعر العامية، وظل أمل هو شاعر الرفض المميز بتجربته الفريدة فى شعر الفصحى، كما ألقى كل منهما بعضا من قصائده فألقى أمل دنقل: قصيدتى "مقتل القمر" و"حوار على النيل"، فيما ألقى الأبنودى ألقى قصيدتى "الناى" و"وداع".
وخلال اللقاء تحدث أمل دنقل عن والده ووالد عبد الرحمن الأبنودى، فقد كانا صديقين وكانا ينظمان الشعر العمودى، موضحا أن ما جمعه بالأبنودى، هو الإخلاص للشعر من البداية، فمنذ اللحظات الأولى، لم يضع فى ذاكرته وتصميمه إلا الشعر، وفى تقديره فإن هذه الرهبنة - على حد وصفه - فى محارب الشعر هى الشىء الأهم الذى جمعه والأبنودى.
بينما قال الخال عبد الرحمن الأبنودى، إنه ما يشبهه بـ أمل دنقل أنهما كانا على قدر واحد من الثورة، على كل ما أحاط بهما من المألوف، وعلى كل الظروف، التى كانت تسير فى اتجاه أن تصنع منهما ما يريد أبويهما.
وكشف الأبنودى أن والده كتب ألفية، مثل ألفية ابن مالك، وكتب بردة مثل بردة البوصيرى، وهما مطبوعتان، مبينا أنه فى بداية حياته حاول أن يكتب الفصحى، لكن أصدقاءه فى القرية كانوا أميين، وإقامته مع والدته وارتباطه ببلدة والدته فى أبنود، ما جعله يشعر بأن الفصحى ليست المعبر الحقيقى عنه، وأنها تفقده كثيرا من المعانى الذى كان يريد أن يعبر عنها.
وأوضح الأبنودى أن كتابته بالعامية فى البداية، جعلت الشيخ محمود الأبنودى والده يمزق أول مجموعة شعرية له، قائلا "أنتم بتهدموا اللغة وبتهدموا الفصاحة والبلاغة".
وتحدث أمل دنقل عن قضية الكتابة بالفصحى أو العامية، مشيرا إلى أن القضية ليست الفصحى، فالشاعر لا يهدم الفصحى، وجميع الملاحم التراثية كتبت بلغة فصحى "مكسرة"، ولم يؤدى ذلك إلى هدم اللغة، لكن اللغة وعاء، والقضية ليست فى اللغة التى يكتب بها الشاعر، لكن فى الأفكار التى يطرحها الشاعر، لافتا إلى أنه يرى أن اللغة أدب فى حد ذاته وقيمة جمالية.
وعن شعر "الأبنودى" أكد "دنقل" أنه يشعر بشعر الأبنودى أكثر من كثير من شعراء الفصحى، لأن الوجدان بينهما مشترك، كما أن هذه الدرجة من الحدة وتناقض الصور مألوف جدا بالنسبة له ومحفور فى وجدانه.
بينما أكد عبد الرحمن الأبنودى أنه حين يقرأ شعر أمل، يشعر كأنه هو الذى يكتبه، مشددا على أن المنطقة التى تربيا فيها كانت منطقة نقاء لغوى، والناس هناك يتحدثون بلغة تجمع ما بين المصطلحات اللغوية والتركيبات الفصيحة، فضلا عن أن اللغة فى قنا ليست غريبة عن اللغة الأم من وجهة نظره، حيث يرى استحالة أن يكون العرب يستخدمون فى القدم لغة التدوين الفصيحة، كما أنه يرى أن التدوين أوقف النمو الحقيقى للغة وصلتها بالحياة اليومية، مشددا على أن للشعر لغته الخاصة، التى تمزج بين الموسيقى والصور، والأصوات التى هى حدود الصورة، فكل قصيدة لها لغتها الخاصة.
وأضاف "الأبنودى" فى سؤال حول رأيه فى الزجل أن الزجل رغم أنه فن له أهميته وكان له دور فى فترة من الفترات، وكان المعبر الذى استطاع من خلاله بيرم التونسى أن يعبر عن تجربته السياسية والفكرية، لكنه فى النهاية فن وقع فى نفس الأخطاء الذى وقعت فيها القصيدة الكلاسيكية من حيث التنظيم، لذا فقدت وهجها.
وتابع "الأبنودى" أن الفرق بين ذلك وبين تجربته، هو أن التجربة تأتى له فى البداية، ثم تبحث عن شكل، وتخلق لغتها الخاصة، ومن ثم أصبحت هذه طريقته، موضحا أنه ربما لو كان شاعر فصحى فلم يكن ليصل لنفس الحالة التى عليها.
وحول جمع الشاعرين فى كثير من أشعارهما بين التراث القديم وبين الواقع المعاصر، أكد أمل دنقل أن الحداثة فى الرؤية الشعرية سواء فى شعر التفعيلة أو شعر العامية، لها جناحان، هما المعاصرة والأصالة، فلا يمكن أن نستحدث شيئا من الفراغ، أو ألا نتكئ على تراث الأمة وماضيها، موضحا أن ذلك يستطيع أن يحقق رؤية لوجدان الشاعر أولا قبل الناس.
وقسم "دنقل" التراث إلى قسمين، الرسمى والشعبى، الأول يحمل الأساطير والميثولوجيا، والثانى هو التراث التى يحمله كل إقليم، ومن الممكن اعتبار ألف ليلة وليلة من التراث الشعبى، موضحا أن العودة للتراث أساسها اكتشاف طبيعة الشاعر، لأن الشعر التقليدى، يحمل نفس الدرجة التى يحملها الشعر الكلاسيكى، ويستخدم نفس العلاقات القديمة بين الأشياء التى كان يستخدمها الشاعر القديم، حتى فى أطر مورثه الدينى والشعبى.
لافتا إلى أنه إذا أراد شاعر أن يتحدث عن التمرد فيتخذ من قصة ابن نوح تعبيرا عن العصيان، لكن من الممكن أن يستخدمه أحد فى إطار النظر لوسيلة الدفاع عن الحضارة الإنسانية، فكل منهما كان يرى أنه بموقفه يحمى الإنسانية، لكن درجة إدراك الشاعر هى مدى قدرته على اكتشاف ما حوله.
فيما قال عبد الرحمن الأبنودى إن الشعر الأعظم يظل مدفونا فى صدور الشعب، وهو الذى يستحق أن تقام له التماثيل، فمن العار ألا يكتشف الشعب شعره، ومن العار أن نستلهم من الأدب اليونانى والآداب الأجنبية ونستوحى منها فى أعمالنا، ونحن عندنا ثروة مدهشة وإنجاز ضخم جدا، لا يمكن لفرد أن ينجزه، مشيرا إلى أن هذه التراث أثر فيه، وجعله يحرص على جمعه، لأن من حق الناس أن تعرف ملاحمها القديمة، مشيرا إلى أنه يعتبر الملاحم "المكسرة" التى ذكرها "دنقل" هى روايات قام بصيغتها أحد "المرتزقة" على حد وصفه، أعاد تشكيلها وأزال منها الطابع الشعبى، مشددا على أنه وجد فى هذه الملاحم مثل السيرة الهلالية كل القيم والأشياء التى لا نجرؤ على التعبير عنها، ورغم أن الغرض هو الاستفادة منها فى أشعاره لكنه بالتأكيد تأثر بها، مبينا أنه ظل مدة تقترب من 14 عاما يجمع هذه الملاحم، جمع خلالها ما يقرب من 650 ساعة، قام بأرشفتها وجمعها وشرحها، حتى أصبحت معدة للنشر.
وأكد "الأبنودى" أن الزمن يقضى على الأشياء، وأن أجهزة الإعلام الحديثة، والدور التى تسللت من خلاله شرائط الكاست، يقضى على السبل القديمة، وكان ذلك جعله حريصا على جمع هذه الملاحم.
وحول نوع القصيدة سواء وطنية أو اجتماعية، تحدث أمل دنقل، موضحا أن الشاعر له وظيفة اجتماعية فى الأساس، فلابد للشاعر من موقف اجتماعى، ثم يأتى بعد ذلك الموقف السياسى، مشيرا إلى أن الشعر الذى تبنى شعارات سياسية زاعقة بشكل مباشر هو شعر "كنسته" الأيام، ولا يحمل أى أسس فنية لتقييمه، كذلك الشعر الذى ينشر فى كثير من الأحيان، والذى نجده مجرد ترجمة لمانشيتات الصحف، الذى تتحدث عن الإنجازات الوطنية والاجتماعية، قصائد ساذجة ومحدودة، كما إنها ليست هى الصحافة الشعرية، كما وصفها "فاروق شوشة" أثناء الحوار، لأن الصحافة لها دور تنويرى، وهذا الشعر ليس تنويريا بل شعر تابع.
وشدد "دنقل" أن الشاعر يجب أن يكون له موقف من المجتمع، فهو فى حقيقة جوهره لابد أن يكون معارضا، فالشاعر لابد أن يحلم بعالم أفضل حتى لو كان الواقع الذى يعيشه جميلا، فهو يطمح فى عالم أكثر جمالا ورقة وشاعرية، فحلم الشاعر دائما هو أن يجعل الواقع شعرا وأن يكون دائما ضد الواقع، مبينا أنه لا يرى قصيدة سياسية أو وطنية، القصيدة واحدة، تحمل كل واحدة الألوان الاجتماعية المختلفة، لتكون الصورة التى تعبر عن إحساس الشاعر بالمجتمع.
بينما يرى عبد الرحمن الأبنودى أن هناك مسافة بين الذاتى والموضوعى، وبين الخاص والعام فى القصيدة، موضحا أنه يرى أن جيل الستينيات هو الأقرب إلى الاحساس بكل ما يدور في هذا العالم، كون أن الإنسان حين يكتب شعرا يكتب عن حياته في هذه اللحظة، فالشعر ليس أن يرى الإنسان زوجته وشقته والعالم المحيط به فقط، لكن العالم، لأن ما يحدث فى العالم هو جزء منه، وبالتالى هو نوع من ضخ الإحساس الجاسم على صدر الشاعر والذى لا يمكن أن يستريح منه إلا بالتعبير عنه.
موضحا أن أمل دنقل نفسه كتب القصيدة السياسية طول الوقت، لكن لم يكن هذه التصنيف فى ذهن أمل، لأنه فى نفس الوقت لم ينفصل عن عالمه وعن أمه وزوجته.
وهنا رد أمل دنقل موضحا أنه لا يعتبر نفسه شاعرا سياسيا هو والأبنودى، بل شاعران وطنيان، وطنى بمعنى الإحساس بالوطن، والأخير ليس بمعناه السياسى، ولكن بمعناه الأشمل الأرض والناس والنيل ولحظاته معهم.
وفى النهاية أكد عبد الرحمن الأبنودى أن أمل يرفض أن يتحدث أحد عن مرضه، وتدخل فاروق شوشة موضحا أنهما خطفا "دنقل" من على سرير المستشفى، لكن أمل شدد أن أمر مرضه قضيته الخاصة التى لا يريد أن يشغل بها أحدا.