د. شوقى عبدالكريم علام

فقه: «فتبينوا» نحو تكوين وعى رشيد «3».. الحاكمية

السبت، 26 أكتوبر 2019 10:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
شكّلت مسألة «الحاكمية» أحد أهم المرتكزات الفكرية لدى الجماعات الإسلامية المتطرفة، فمثّلت اتجاههم التنظيرى لما أُدخل على المفهوم من جعله نموذجًا للمفاصلة بين الإيمان والكفر.
 
ونتجت الحاكمية بناءً على فهمهم استنادًا إلى الآيات الكريمة: «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» «الأنعام: 57»، «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ» «الظَالِمُونَ» «الفاسقون» «المائدة: 44، 45، 47». «أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» «المائدة: 50» إلى جانب الآيات الأخرى التى تتحدّث عن قضية الحكم والتشريع.
 
وأوّل من استدلّ بالآيات الكريمة السابقة فى سياق الاستدلال الحجاجى المبنى على موقف سياسى، هم الخوارج فى عهد أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب كرم الله وجهه، فلما حدث الشقاق بين المسلمين الأوائل وأعلنت الحرب وبدأت الغلبة لفريق سيدنا علىّ رُفعت المصاحف على أسنّة الرماح، وانحنى اثنى عشر ألف رجل من جيش الإمام علىّ مطالبين بالحكم بما أنزل الله، فقالوا «إن الحكم إلا لله.. الآية»، فردّ عليهم الإمام علىّ: «كلمة حقّ أريد بها باطل».
 
ومُنذ ذلك الحين وتُستدعى آيات من القرآن للحرب النفسية على المتلقى لإيهامه أنها حقّ وهى باطل فى موضعها وتنزيلها على الوقائع.
 
تلقّى مفهوم «الحاكمية» بتداعياته السياسيّة أبو الأعلى المودودى الباكستانى فشرحه ضمن مصطلحات أخرى حاول أن يركز عليها فى القرآن، واعتقد أنّ الأمة لم تفهم المراد من النص القرآنى الذى تناول هذه المصطلحات الأربع «الإله، الرب، الدين، العبادة»، فأخذ سيد قطب من بعده هذا المفهوم وأسقطه على الواقع المعيش ووضع له مرتكزات تفاعليّة.
 
والحاكمية فى مفهومها هى مصدر صناعى من الفعل حَكَمَ بمعنى شرّع أو فصل بين المتنازعين فى أمر ما، وهو المعنى المستفاد من سياق الآيات الواردة فى القرآن التى تتحدث عن الحكم والتشريع من أمثال الآيات الكريمة المذكورة آنفًا.
 
وداخل علم أصول الفقه نجد علماء المسلمين يتكلمون عن باب «الحاكم» «والحكم»، ويعرّفون الحكم بأنه: خطاب الله المتعلّق بأفعال المكلّفين اقتضاءً أو تخييرا أو وضعًا، هذا تعريفهم للحكم بصفة عامّة ويقررون أنّ الحكم منه شرعىّ ومنه وضعى، فالوضعى هو خطاب الله بجعل شىء سببًا لشىء أومانعًا أو شرطًا.
 
فما من حكم من الأحكام الشرعية إلا ويلزم لتحقيقه وجود أسباب وتحقق شروط وانتفاء موانع.
 
وعلى ذلك التقعيد فإنّ الخطاب الذى قررته الآيات التى تحدثت عن الحكم، حكما تكليفيًّا تتعلّق به ذمّة المكلّفين، حين تتحقق أسبابه وشروطه وتنتفى موانعه، فبعض الكلمات والمصطلحات والمضامين تكون صحيحة فى نفسها وتحتاج فى تنزيلها على أرض الواقع إلى هذا الخطاب الوضعى.
 
فإذا أخذنا آية:«وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ» نجد أنّ العلماء يقولون إنّ عدم الحكم بأمر أنزله الله فى قضيّة ما لا يلزم منه كفر الحاكم الذى حكم فى ذلك الأمر؛ ذلك أنّهم يُفرّقون بين عدم الحكم وجحود كون هذا الحكم مستحقٌ للتطبيق؛ فمناط الحكم المستفاد من الآية هو الجحود، لا مطلق عدم الحكم بما أنزل الله، ولذلك قال سيدنا عبد الله بن عباس وغيره فى تأويل الآية الكريمة: «كُفرٌ دون كُفر». أى ليس المقصود فى الآية الكفر المخرج من ملّة الإسلام.
 
هذا ما فهمه علماء المسلمين على مرّ العصور من هذه الآيات، ومال كثير من العلماء، أيضًا، إلى القول بأنّ الآية الكريمة نزلت فى اليهود، حين حرّفوا التوراة وبدلوا بعض الآيات فيها لإرضاء هواهم، ولا تنسحب على غيرهم؛ إذ لا ينسحب الخطاب إلى غيرهم من مفهوم الآية كونهم هم الذين بدّلوا وحرّفوا.
 
وهذا الفهم الذى ظل فى كل مراحل التاريخ عند علماء المسلمين هو ما وجدناه فهمًا رشيدًا متفقًا مع منهجية تطبيق الأحكام عند صحابة رسول الله والتابعين ومن بعدهم، ولا أدلّ على ذلك من إيقاف تطبيق سيدنا عمر بن الخطاب لحدّ السرقة فى عام المجاعة، نظرًا لخلوّ المحلّ الذى يصحّ أن يُوقعه عليه وهو الذى نُسمّيه «تحقق الشروط، وانتفاء الموانع» فلما لم يجد سيدنا عمر شروط تطبيق الحكم متحققة لم يُوقعه، بل أوقفه، ولم يقل أحد إنَّ سيدنا عمر حكم بغير ما أنزل الله فاستحقّ الرمى بالكفر.
 
إذًا نخلص إلى نتيجة مفادها أن الآيات الواردة فى الرمى بالكفر لمن لم يحكم بما أنزل الله هو جحود كون حكم الله غير صحيح أو أنّ حكم غيره أفضل لأنّ لازم ذلك هو الطعن فى مُصدره وهو الله سبحانه وتعالى.
 
 






مشاركة



الموضوعات المتعلقة




الرجوع الى أعلى الصفحة