في يوم الـ 29 من أكتوبر عام ام 1923، وضع العسكرى الشاب الذى كانت تبدو عليه ملامح القيادة، اللبنة الأولى فى الجمهورية التركية الحديثة بعد أن طوت صفحات الدولة السلجوقية بوهنها والعثمانية بجرائمها وأطماعها، وقاد مصطفى كمال أتاتورك حرب استقلال لتحرير الأناضول، ووجه نداء لشعبه لإلغاء الخلافة وتأسيس العلمانية على أنقاضها.
لم يكن يتخيل أتاتورك يوما أن يأتي من بعده من يمحو إرثه ويرسخ ديكتاتورية تتخذ من عباءة الدين ستارا لها، فقد أسس أتاتورك نظام تركيا الحديثة بحدودها الحالية المعروفة على أساس نظام جمهورى برلمانى، وبدأ سلسلة إجراءات استمرت بضع سنوات، غير من خلالها وجه تركيا بالكامل، حيث منع ارتداء الطربوش والعمامة وروج للزى الغربى، منع المدارس الدينية وألغى المحاكم الشرعية، أزال التكايا والأضرحة وألغى الألقاب المذهبية والدينية، وتبنى التقويم الدولى، كتب قوانين مستوحاة من الدستور السويسرى، وفى عام 1928 ألغى استخدام الحرف العربى فى الكتابة وأمر باستخدام الحرف اللاتينى.
واليوم يحيى الأتراك قيام الجمهورية على أنقاض العلمانية، فقبل أن تصل الجمهورية التركية لمئويتها رغم التغيرات التى طرأت على دستورها فى السنوات الماضية، وبعد 96 عاما، تعمد رجب طيب أردوغان تغيير الكثير من معالم الدولة التى وضع اطرها أتاتورك، وهاجمه منتقدوه وقالوا أنه انقلب على الإرث العلمانى وجر تركيا بحزب العدالة والتنمية نحو الأسلمة والابتعاد عن العلمانية، لدرجة أن النظام أقدم على تغيير مكان تمثال ضخم لأبى تركيا العلمانية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك من ساحة رئيسية فى معقل الرئيس رجب طيب أردوغان إلى موقع جانبى فى ديسمبر العام الماضى، الأمر الذى أثار جدلا واسعا بين أنصاره الذين اعتبروا نقل التمثال نوعا من التهميش وأردوغان والسعى لأسلمة المجتمع التركى وتفكيك إرث الجمهورية العلمانية الحديثة، التى أقامها أتاتورك.
وفى طريقه للقضاء على العلمانية، خلع أردوغان "قبعة" أتاتورك العلمانية وارتدى متعمدا "العباءة الإخوانية" التى احتضن داخلها التنظيمات الإرهابية، وفى مقدمتها تنظيم الجماعة الإرهابية، التى منحها الملاذ الأمن والأبواق الإعلامية، لتصويب سهامها لبلدانها، كما سمح أردوغان أن تكون تركيا معبرا لجماعات الجهاد المزعوم فى سوريا.
سار أردوغان على طريق تفكيك إرث الجمهورية العلمانية الحديثة، فانقلب حتى على اتفاقية تعيين الحدود التركية، التى وقعتها حكومة مصطفى كمال أتاتورك فى يوليو من عام 1923 والتى رسمت حدود الدولة التركية وكرست قيادة أتاتورك لتركيا باعتراف دولى، وفى أكتوبر عام 2016 فى محاولة لأردوغان لتعافى "رجل أوروبا المريض"، وإعادة فرض وصايته على الأراضى التى فقدتها الدولة العثمانية فى نهاية الحرب العالمية الأولى، طالب "أردوغان" بتعديل تلك الاتفاقية.
واعتبر الرئيس التركى أن "خصوم تركيا" أجبروها على توقيع معاهدة سيفر عام 1920 وتوقيع معاهدة لوزان 1923، وبسبب ذلك تخلت تركيا لليونان عن جزر فى بحر إيجه، وتابع أردوغان "على الرغم من أن الصرخة من هناك تسمع على الشواطئ التركية (قريبة جدا من الساحل التركى). هناك توجد مساجدنا ومقدساتنا. هذه المشكلة ظهرت بسبب الذين جلسوا خلف طاولة المفاوضات فى لوزان ولم يتمكنوا من الدفاع عن حقوقنا".
خطوات أردوغان لترسيخ الديكتاتورية، لم تقف عند هذا الحد بل مرر الرئيس التركى تعديلا دستورية فى 19 ابريل الماضى، بهدف إلى التحول من النظام البرلمانى إلى نظام رئاسى يستولى فيه الرئيس التركى رجب طيب إردوغان على سلطات وصلاحيات أوسع، لبلوغ حلمه الذى راوده منذ أن شغل منصب رئيس الجمهورية فى 2014، واتهمه المعارضة بمصادرة الحريات وفرض حالة الطوارئ وتقويض الديمقراطية التى أسس على أساسها أتاتورك جمهوريته العلمانية.
لم يكن ذلك فحسب بل تعمد أردوغان إهانة جيش أتاتورك (حصن العلمانية)، والذى وضع أتاتورك اللبنة الأولى له لبناء مؤسسة عسكرية وطنية على بقايا الجيش العثمانى وحباها بمكانة مميزة بعد اعتلائه للسلطة 1923، حتى يكون هو المدافع الأول عن الحدود الفكرية للدولة العلمانية، لذا نرى تلك المؤسسة توغلت فى الحياة السياسية كلما شعرت بالخطر على مبادئ أتاتورك العلمانية، ومن أجل تحقيق هذا الهدف قامت بـ 5 انقلابات عسكرية نجحت 3 منها فى الأعوام 1960 و1971 و1980، كما أجبر رئيس الحكومة الإسلامى نجم الدين أربكان على الاستقالة فى انقلاب أبيض عام 1997.
وها هو الجيش الذى حاول التدخل ليلة ألـ 15 من يوليو عام 2016 الماضى، للإطاحة بالرئيس أردوغان الذى استفحل حكمه، وانقلب على الإرث الأتاتوركى، ليعاقبه الرئيس التركى ويبدأ حملة تنكيل بقياداته التى لم تقف عند الاقصاء من المؤسسة العسكرية، بل امتد إلى عملية اعتقالات تعسفية لم تتوقف على مدار العام الماضى، حيث اعتقل النظام 50 ألفا و510 أشخاص من بينهم 169 برتبة جنرالا و7 آلاف و9 برتبة عقيد و8 آلاف و815 فرد أمن، بالإضافة إلى 24 واليا و73 نواب و116 محافظا 2431 قاضيا ومدعيا عاما.
وعاشت المؤسسة العسكرية التركية العام الماضى أسوء عصور القمع فى تاريخها المعاصر، بين حملات تصفية وتسريح واعتقالات متواصلة وملاحقات قضائية، وممارسات قمعية فى الداخل، ما دفع العديد منهم بطلب اللجوء السياسى مع عوائلهم إلى ألمانيا فى نوفمبر الماضى، إلى الخارج هربا من بطش النظام وإذلاله للجنود والضباط، واعتراضا على إشراك تلك القوات فى عمليات عسكرية ونوعية خارج حدودها فى شمال العراق وسوريا وتعرضهم لهزائم منكرة فى تلك العمليات ومقتل العديد منهم.
ليس ذلك فحسب بل استعاد أردوغان أطماع العثمانيين فى الاقليم، وفظاظة قلب السلطان سليم الأول فى توسيع حدود بلاده وامعان القتل فى خصومه فقط طارد أردوغان المعارضة التركية ولاحقها فى أقصى نقاط العالم وقام بتصفية عددا كبيرا منها، الأمر الذى كشفه سفيره لدى النظام القطرى فكرت أوزر، فى مقابلة مع وسائل إعلام قطرية عام 2016.
وقاد أردوغان جيوشه خارج حدود بلاده، للقيام بعمليات من شأنها بسط النفوذ التركى، واتخذت طابعا مذهبيا فى بعض الأحيان، ففى العراق نشر قواته فى الشمال رغم رفض الحكومة العراقية، وفى سوريا خرجت جيوش أردوغان على حدود التماس معها، من أجل تحقيق أحلام النظام فى التخلص من الأكراد، وفى صيف عام 2016، أطلق عمليات"درع الفرات" العسكرية فى مدينة جرابلس شمال سوريا، لإيهام العالم، بأن الدولة التركية تطهر تلك المناطق من تنظيم داعش الإرهابى، وجدد مواجهته مع أكراد سوريا، خلال عملية عسكرية جديدة برية وجوية فى سوريا شنها فى 20 يناير 2018، تحت مسمى "غصن الزيتون"، كما شن عدوان على الأراضى السورية فى اكتوبر 2019، من أجل القيام بتطهير عرقى للأكراد، وهكذا قضى اردوغان على ارث أتاتورك، وكشف الوجه التركى القبيح لإعادة أملاك الدولة العثمانية، وفرض الوصاية على الأراضى التى فقدتها الدولة العثمانية فى نهاية الحرب العالمية الأولى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة