ربما لا يبدو في الأفق القريب بوادر انفراجة واضحة للأزمة اللبنانية تدفع باتجاه فتح ثغرة في الحائط المسدود الذي وصل إليه التأزّم السياسي، رغم استقالة سعد الحريري عشية الثلاثاء الماضي، فلا يمكن التأسيس على ذلك للتعاطي بانفتاح مع المطالب السياسية التي طرحهتا الانتفاضة الشعبية كمدخل لتحقيق الإصلاح، وذلك بكتابة تاريخ لبنان من جديد عبر إنشاء كيان وطني موحد بعيدا تماما عن الطائفية والمحاصصة، خاصة أن هتافات المتظاهرين تحمل دلالات كثيرة تتلخص في ترديد شعار واحد : "كلن يعني كلن " في إشارة على فشل كل زعماء لبنان على مدار سنوات ماضية في توفير الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية.
المتأمل للمشهد اللبناني الحالي ربما يتساءل بينه وبين نفسه: أيحتاج لبنان - كما نعرفه قطعة من جغرافيا، وفلذة من تاريخ - إلى أن يتسلق ذروة من ذرى الزمن، وإلى أن يضرب في مسافات الأرض والسماء، فيجيل أنظارا ثابتة أو حائرة في ظُلمةِ الماضي أو غيب المستقبل، في الآفاق القريبةِ أو البعيدة؟
ظني أنه سؤال يبدو بلا جدوى الآن، بعدما بات من الصعب التغاضي عما يحدث في الشارع، أو حصر لبنان الوطن في أمر مطلب واحد، فالنفايات المنتشرة في الشوارع تزكم الأنوف برائحتها النفاذة، ولا تتوفر سبل الحياة الكريمة للمواطن اللبناني من كهرباء، ومياه، وفي ظل غياب كامل للقانون لا يتوفر الأمن على الإطلاق، وفوق كل ذلك لا توجد حريات في مجتمع عرف عنه الانفتاح منذ نشأته على وجه الكرة الأرضية، فضلا عن غياب العدالة والضمانات الاجتماعية، بينما هنالك ظواهر سلبية سائدة تكشر عن أنيابها يوميا في وجه الناس، مثل التعديات والمخالفات والنهب والقمع والفساد، ولقد هالني مشهد الشارع اللبناني الحالي حيث توجد سيارات بلا لوحات، قتل، وقتل مضاد، وهو ما يوحي بالفوضى التي لا يمكن السكوت أو التغاضي عنها بأي حال من الأحوال.
انتفاضة غضب الشارع اللبناني غدت أكبر بكثير من "ورقة إصلاحية"، كما أن سقوط حكومة الحريرى بعد 13 يوما من الغضب - من وجهة نظري - سيمثل استعصاء ستعود من خلفه القوى المذهبية لتتولى صياغة المشهد، فعلى حد قول خبراء في الشأن اللبناني أننا أصبحنا حيال فشل نظام سياسي ، والانتفاضة بدت ذكية إلى حدٍ نجحت فيه بعدم تجرع "الطعم"، فالحريري كان في آخر قائمة المستهدفين بالشعارات، على رغم محاولات يساريي "حزب الله" تحويله كبش فداء الطبقة السياسية.
مما لاشك فيه أن مشهد "بيروت" حاليا أصبح يغري بمغامرة في المجهول، ويرسم صورة جديدة ومغايرة في المخيلة، فطرابلس "عاصمة السنة" تهتف ضد الحريري وميقاتي، وتتضامن مع صور "عاصمة الشيعة" التي قمعتها بالأمس الآلة الميليشيوية لحركة أمل، جرى ذلك في ظل شقاق مذهبي كبير يشطر المنطقة كلها، ويبدو رائعا جدا أن صعدت تظاهرات لبنان من السلم الموسيقي بنوتة متنوعة، توزعت بين الأناشيد الوطنية، وحلقات الدبكة الشعبية، والأغاني التي تم تحوير كلماتها بما يتلاءم مع مقتضيات الحالة السياسية.
انعقدت حلقات الدبكة في الكثير من المدن التي شهدت تجمعات مناهضة للحكومة، وردد المتظاهرون أغنيات حماسية لكل من "فيروز وجوليا وماجدة الرومي وزكي ناصيف ومرسيل خليفة"، وبخاصة أغنيات "جوليا بطرس" التي تدعو إلى الثورة، من خلال: "يا ثوار الأرض" و"وين الملايين" "وأنا بتنفس حرية " وغيرها من الأغنيات التي تشعل حماس المشاركين من الشباب، وفي مفارقة لافتة من فنان يساري، قدم "مارسيل خليفة" للمتظاهرين بصوته أغنيات "إني اخترتك يا وطني" و "يا بحرية"، وسط حماسة الجمهور الذي ظل يردد معه في حماسة، ولم ذلك الجمهور سوى الإعلام اللبنانية، دون سائر الأحزاب والتيارات.
ثورة الشعب اللبناني هى الأكثر حماسا وجذبا للأنظار، لما احتوته من عناصر تشويقية وطرق جديدة في التعبير والمشاركة، فاللبنانيون الذين ذاع صيتهم كشعب محبّ للحياة - بالرغم من المعاناة التي عاشوها ولم يزالوا على مختلف الأصعدة - لم يتركوا وسيلة تعبير سواء أكانت عن طريق الغناء أو الرسم أو التنكر أو اليافطات الطريفة، إلا واعتمدوها لإيصال صوتهم في المظاهرات، ومن يجول في ساحات التظاهر في لبنان، لابد أن يلفت نظره هذه المشاهد الحضارية التي تعكس أحلام الشباب اللبناني ورغبته في العيش في وطن أفضل، على قدر احلامه وتطلعاته .
واللافت للنظر أكثر أن في قلب تلك الاحتجاجات أنها ألقت الضوء على دور المرأة في التغييرات السياسية الحاصلة حاليا، لتكون بذلك وجه الثورة اللبنانية وصوتها، من خلال مشاركتها الواسعة في المظاهرات التي انطلقت احتجاجاُ على الوضع الاقتصادي في البلاد، الجرأة نفسها جعلت من امرأة لبنانية عجوز أيقونة جديدة للثورة القائمة في لبنان، فهذه "الكهلة" توجهت إلى صفوف قوات الشرطة اللبنانية التي تواجه المتظاهرين، وكلمت أحد الضباط بمشاعر أمومة حولتها أما لهذه الانتفاضة اللبنانية كلها، بشبابها وشيبها، "لا خوف بعد اليوم... لا خوف الحق معنا" هكذا كان حال كل نساء لبنان على اختلاف أعمارهن؟
لقد جمع الحراك اللبناني الجديد ألوانا عدة في المجتمع المدني اللبناني الذي وجد في الأرض الملتهبة اليوم فضاء اجتماعيا جامعا كل الشرائح والطوائف، تحت راية واحدة، راية المطالب الوطنية العامة، فشارك كل لبناني على هواه، محترما سلمية التحرك، فلم يعد من الممكن التغاضي عن انتفاضة غضب الشعب اللبناني في لحظته الراهنة، المواجهة مفتوحة، وليس من حل جذري قريب يلوح في الأفق، لذا بات واضحا إنه لابد من العمل على تأسيس تنظيمات ونقابات ثورية، يكون هدفها تثوير الفئات الشعبية من خلال النضال ضد النظام الذي يؤبد معاناتهم، ومن أجل ألا تدخل القاعدة التي تقول إن الحركات التغييرية لا تقوم بأكثرية شعبية حيز التنفيذ، بحيث يمكن القول بعدها، إن سيرورة تغيير النظام في لبنان قد بدأت فعلياً.
وإن كان الحريري قد تعاطى مع الانتفاضة الشعبية منذ اليوم الأول لانطلاقتها وقدم استقالته في نهاية المطاف، لكن تبقى هناك أزمة سياسية يجب توفير الحلول لها، فلا يعني أن الحل الأول يكمن في أن رئيس الجمهورية "ميشال عون" تحدث أخيرا عن التغيير الوزاري بحسب "الأصول الدستورية"، كما لا يعني شيئا على طريق الحل دخول "حزب الله" بشخص أمينه العام على خط المشاورات أدى إلى تغيير جذري في الأولويات، بعدما كان يرفض كليا الشق السياسي الذي طالب به المحتجون، فيما يتخذ رئيس المجلس النيابي "نبيه بري" لنفسه الموقع الذي يتيح له مراقبة التطورات من جهة والدخول كطرف في الصراع الدائر حول القضايا السياسية، طالما أنه لا يوجد توافق على المخرج الذي يؤدي إلى عودة الوضع الطبيعي ولو على مراحل.
لقد بدا واضحا للكافة أن الشعب اللبناني انتفض لهدف واضح ومحدد هو رفضه المطلق للطائفية والمحاصصة السياسية، كما بات واضحا أن التجربة العملية أثبتت أن فوائد المحاصصة الطائفية لا تذهب إلا لملوك الطوائف، وليس المواطنين العاديين، وأن هذه الصيغة صيغة فاشلة، وأن القضايا الأساسية التي يجب الاهتمام بها هي زيادة الكفاءة الإدارية بغض النظر عن الطائفية، بعد أن وجه اللبنانيون صرختهم في وجه السلطة، وأجمعت الكلمات المقتضبة على "وقف الهدر وتجويع الناس والفساد المستشري في كل القطاعات، وعلى وجوب أن يتحمل الناس مسؤولياتهم ويتوقفوا عن انتخاب المسؤولين الذين اثبتوا فشلهم الذريع".
والآن لابد من الالتفاف حول هدف واحد يجمع الكل، لأن الزعماء السياسيين في لبنان يأملون بأن تخبو الاحتجاجات - التي اندلعت على نحو عفوي غير منظم - في نهاية المطاف، ضاربين عرض الحائط بأن لبنان بلد يشعر حاليا بأنه ولد من جديد في الأسبوعين المنصرمين، فالناس المهمشون منذ عقود شعروا فجأة أن بإمكانهم محاسبة النخبة السياسية والمطالبة بالتغيير، غير أن الخطر الحقيقي مختف خلف قناع المناخ الاحتفالي، الذي يصطحب فيه الناس أبناءهم للاحتجاجات ويرقص فيه متظاهرون بحماس، فالخلافات القديمة لا تموت بسهولة، وربما شلت هذه الاحتجاجات المفاجئة حركة الزعماء السياسيين في لبنان، لكن هذا لا يعني أنهم سيسلمون السلطة دون قتال.
و إذا كان البعض ما زال يعتقد أنه يستطيع تهديد هذه الجموع التي نزلت إلى الشارع وإرهابها فهو واهم، لأن من ثار انتصاراً لكرامته كاسرا جدار الخوف، فاتحا صدره لنسيم الكرامة والحرية، لا يستطيع زعيم طائفة أو حزب أو ميليشيا أن يرهبه أو يهدده أو يثنيه عن ثورته.. وحتما سيعود "لبنان الكرامة والشعب العنيد" أجمل مما كان، وسيظل يردد مع فيروز:
بحبك يا لبنان.. يا وطني بحبك
بشمالك.. بجنوبك.. بسهلك بحبك
تسأل شو بني.. وشو اللي ما بني
بحبك يا لبنان.. يا وطني