بدأت الحرب العالمية الأولى، يوم 28 يوليو عام 1914، فأصيب الدكتور طه حسين بحزن وألم ولوعة، لأن الجامعة المصرية استردت مبعوثيها من الطلاب فى أوروبا، وأوقفت إرسال البعثة الجديدة إلى فرنسا، وكان هو واحدا من أفرادها، حسب مذكراته «الأيام»، ويروى فيها هذه القصة كاملة.
خاض «حسين» معركة شاقة للحصول على الدكتوراه من الجامعة المصرية، فكان أول من يحصل عليها فى تاريخ الجامعة يوم 5 مايو 1914، وكان حدثا كبيرا دفع الخديو عباس الثانى أن يدعوه إلى الإسكندرية لتهنئته بنفسه، ثم فاز فى معركته ليكون ضمن مبعوثى الجامعة إلى فرنسا، وتقرر سفره يوم 8 أغسطس 1914 لدراسة التاريخ، وسافر إلى الصعيد «المنيا»، ليودع أبويه، فأقام فى أسرته أسابيع كانت تثير فى نفسه كثيرا من الشجون، ففيما كان يرى أباه مبتهجا أشد الابتهاج بسفر ابنه إلى أوروبا، كانت أمه تفكر فى حال ابنها، وفيما سيعرض له من الخطوب فى بلاد الغربة، وفيما سيتكلف من الجهد ويحتمل من المشقة، وكانت كلما رأت ابتهاجه وابتهاج أبيه ثقل عليها هذا التفكير.
عاد «حسين» من الصعيد إلى القاهرة ليتهيأ للسفر البعيد، لكن إعلان الحرب أوقف إرسال البعثة، فانقلبت أفراحه إلى أحزان، بعد شهور قليلة دعته الجامعة وأبلغته هزيمة الألمان أمام باريس، وأن ممثلى فرنسا سعوا إلى الحكومة والجامعة لإعادة الطلاب المصريين إلى الجامعات الفرنسية، وفى يوم 14 نوفمبر - مثل هذا اليوم – 1914، أبحر من الإسكندرية، ومعه أخوه وطالبان كان لهما فى حياته فى فرنسا شأن، واحد لدراسة القانون، والثانى خريج دار العلوم، وسافر للتخصص فى الأدب العربى.
شقيق «حسين» الذى رافقه فى السفر، كان ليعينه على الحياة الشاقة فى تلك البلاد الغريبة النائية.. يذكر حسين: «أبت الجامعة أن تحتمل من نفقة هذا الأخ قليلا أو كثيرا، فاضطر الأخوان إلى أن يعيشا براتب واحد على ما فى ذلك من ضيق وشدة، وقبلت الأسرة أن تعينهما بشىء من مال يسير بين حين وحين، وعلى غير نظام مطرد».. يتذكر أن سفر كان على سفينة فرنسية فقيرة حقيرة رخيصة.. يؤكد: «كان اختيارها لونا من الاقتصاد، وكان اسمها «أصبهان»، وكانت على بؤسها وفقرها مرحة تحب الرقص فى البحر، وتحسن اللعب على أمواجه، ولا تحفل بما يلقى ركابها من عقاب حبها للرقص واللعب، وكانت تؤثر المهل على العجل، وتفضل الأناة على السرعة، وكانت السفن تعبر البحر بين الإسكندرية ومارسيليا فى أربعة أيام، فأما أصبهان فكانت تحب البحر، وتؤثر أن تعبره فى ثمانية أيام لا فى أربعة».
كان «حسين» حتى وقتئذ يرتدى زيه التقليدى «جبة وقفطان»، وجاءت اللحظة التى سيخلعه فيها على السفينة ليشعر معها أنه ينتقل من عالم إلى عالم،يقول، إنه صعد إلى «أصبهان» يتعثر فى جبته وقفطانه، وتخفف من عمامته، ودخل فى ذلك الزى الأوروبى، وشغله دخوله فى ذلك الزى عن إقلاع السفينة واندفاعها فى طريقها هادئة أول الأمر، مضطربة بعد ذلك أشد الاضطراب، ورأى نفسه حين أقبل المساء وقد فارق مصر، ودفع إلى مغامرته تلك التى عرف أولها، ولكنه لم يعرف ما يكون بعد أولها هذا من الأحداث والخطوب، يؤكد، أنه لم يفكر فى الأحداث ولا فى الخطوب، ولا فى أول المغامرة ولا آخرها، وإنما شغل بزيه الجديد ساعة وبعض ساعة، ثم شغل باضطراب السفينة بعد ذلك، فلم يفزع منه إلا حين أنهت السفينة رحلتها، وانتهت بها إلى مارسيليا ذات مساء بعد ثمانية أيام طوال حافلة بالفزع والروع والضيق».
يتحدث عن معاناته الشخصية فى السفينة، يعترف أنه لزم غرفته منذ أن دخلها إلى أن خرج منها، لم يذهب إلى غرفة المائدة، وكيف يذهب إليها وهو لا يحسن الحركة فى هذه السفينة التى لا تستقر، ولا يعرف الجلوس إلى موائد الطعام، ولا يحسن استعمال تلك الأدوات التى يستعملها الناس حين يطعمون، ولا يستطيع أن يأكل أمام المسافرين من الأوروبيين بيديه كلتيهما أو إحداهما، كما كان يصنع فى مصر، فليس له بد إذا من أن يصيب طعامه فى غرفته، وكان الرفاق قد وكلوا به خادما من خدم السفينة يحمل إليه غداءه وعشاءه،وقد أعد إعدادا حسنا، ليصيب منها حاجته، فكان الخدم يحمل إليه الطعام فى موعده، فيضعه بين يديه ثم ينصرف عنه، ويغلق باب الغرفة من دونه، ثم يعود إليه بعد حين، ليحمل ما وضع بين يديه من أطباق، وكان كلما عاد إلى حمل هذه الأطباق قال الفتى فى ضحكة حزينة جملة بعينها لا يغير منها حرفا وهى: «ما أقل ما تصيب من الطعام».
وصلت السفينة مدينة «مونبلييه»، فشعر بأقصى درجات السعادة والرضا، لأنه حقق أملا لم يكن يقدر أنه سيحققه فى يوم من الأيام، وحسب اعترافه: «كان يكفيه أن يفكر فى صباه ذلك البائس الذى قضاه مترددا بين الأزهر وحوش عطا، تشقى نفسه فى الأزهر، ويشفى جسمه ونفسه فى حوش عطا».