- المعترضون يُزايدون بالتعليم والصحة والمؤيدون يدعمون القيادة وبرامج التنمية
- الإخوان يسبحون فى «طشت أم وجدى».. الانتقادات تتجاهل اختلاف التزامات الدولة عن الأسرة الصغيرة.. والردود: البلدان مُطالبة بالبناء حتى فى أوقات الأزمات
لم تكن مصر قد تجاوزت آثار الخروج الخشن لجماعة الإخوان الإرهابية من الحُكم، وما ترتب على الثورة العارمة التى أطاحت التنظيم من السلطة، بين عمليات إرهابية، وحملات دعائية خارجية، وتواطؤ من بعض القوى الإقليمية للتنظيم، حتى أعلنت القيادة السياسية عن مشروع ضخم فى منطقة القناة، رأى كثيرون أنه خارج سياق المُلاءمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
وقتها كان الرئيس الصاعد حديثًا إلى السلطة، عبد الفتاح السيسى، يستفتح شهره الثالث داخل مؤسسة الرئاسة، حينما فُوجئ متابعو زيارته إلى الإسماعيلية لحضور احتفالية مشروع تنمية المنطقة الاقتصادية للقناة فى الخامس من يونيو 2014، بالإعلان عن حفر تفريعة جديدة للقناة، وتكليف الهيئة الهندسية للقوات المسلحة بإنجاز المشروع خلال سنة واحدة، بدلًا من ثلاث سنوات، والاستناد إلى اكتتاب وطنى فى شهادات تصدرها البنوك المحلية لتمويل المشروع، بتكلفة باهظة تتجاوز 60 مليار جنيه.
لا يمكن اعتبار المشروع عملًا من أعمال السيادة، لذا فإنه لا يعلو على حدود النقد المسموح بها، فيما يخص حسابات الجدوى، والمواءمة، وفلسفة الأولويات. يحق للجميع النظر الجاد، والفحص العميق، وتقييم القرار والتنفيذ والمعنى والأثر، مع الوضع فى الاعتبار أهمية أن يكون الأمر فنيًا مؤسسًا على منطلقات جادة، وحُجج وأسانيد قوية، ودون إغفال أن تلك المساحات من تفاوت الرؤى، أبواب مُشرعة ومسارات مفتوحة على التزيّد والمُزايدة والكيد السياسى أحيانًا. لكن التوظيف السياسى من جانب البعض، لا يُمكن أبدًا أن يكون سببًا فى إغلاق الباب أمام الجميع، أو فى رفض الآراء الموضوعية واتخاذ موقف حاد منها.
اعتراضات وجيهة على القناة
ربما لم يشهد مشروع تنموى أو اقتصادى ما شهدته قناة السويس الجديدة من انتقادات. خبراء كثيرون تحدثوا عن أرقام ومؤشرات تتصل بالجدوى، وسياسيون تناولوا الأمر من أرضية الأولويات. المؤيديون امتدحوا القفزة القومية الطموحة، والمعارضون اعتبروا الأمر بذخًا وتبديدًا للمال، وبين الرؤى المتصارعة ربما غابت كثير من الأمور المهمة والجديرة بالفحص.
أبرز الانتقادات اتصلت بضخامة المشروع وكثافة كُلفته الاستثمارية. تحدث فريق عن أنه لا وجه للاستعجال فى تنفيذ مجرى ملاحى بتلك القيمة، وقال آخرون إن هناك أولويات أكثر إلحاحا فى الصحة والتعليم والتموين والرعاية الاجتماعية، وأشار فريق ثالث إلى أن الاقتصاد العالمى يشهد تباطؤا ملحوظا، يُحتمل معه أن تتراجع تدفقات التجارة العالمية، ما يعنى تقلص حصة قناة السويس من حركة النقل، وتقلص العوائد بالضرورة، ومن ثمّ تراجع الجدوى الاقتصادية.
رأى المعارضون للمشروع أيضًا، أن توجيه تلك التدفقات المالية الضخمة إلى مشروع غير إنتاجى يمثل إهدارا لفرص تنموية ضخمة، حال ضخ تلك الأموال فى ماكينة الصناعة، بتدشين مصانع ومُدن صناعية وتوليد آلاف من فرص العمل، وزاد غيرهم على ذلك بأن القيمة المضافة للتفريعة الجديدة لا تُوازى كُلفتها الاستثمارية، بالنظر إلى وضعية القناة السابقة وقدراتها الاستيعابية وآلية الملاحة وفترات التقاطر فى الاتجاهين، وأخذ فريق أخير أقصر الطرق إلى نسف الفكرة من بابها، بالجزم يقينًا بأن القناة الجديدة مشروع فاشل، وأنها خارج أية معدلات متزنة أو مُجدية للفائدة والعوائد، وأنها بروباجندا سياسية من النظام للتغطية على أزمات داخلية، كما نشطت ماكينات جماعة الإخوان الإرهابية وقنواتهم والمنصات الحليفة، التى تبث من اسطنبول والدوحة ولندن.
ردود منطقية على المعترضين
فى مقابل الاعتراضات العديدة التى رُفعت فى مواجهة قناة السويس الجديدة، تبنت الدولة رؤية ترى المشروع خطوة استراتيجية على صعيد تطوير القناة، وإرساء ركيزة جديدة لدعم محور المنطقة الاقتصادية للقناة، فضلًا عن أنه مسار تأخر طويلًا بالنظر إلى تطور قطاع النقل البحرى، وإثبات قدرات القناة.
خبراء آخرون ردّوا على ما أُثير بشأن حسابات الجدوى، مُقلّلين من قيمة ما يتردد بشأن الآثار التجارية لتباطؤ الاقتصاد العالمى، بالنظر إلى طبيعة التدفقات التجارية بين آسيا وأوروبا، وتنافسية قناة السويس مقارنة بالمسارات البديلة، والنمو المتصاعد فى نوعية السلع والتدفقات العابرة للقناة، وفسّر فريق منهم الأمر بأن القدر الأكبر من حصة القناة يتوزع على البترول ومشتقاته، والأغذية والحاصلات الزراعية، والصناعات الوسيطة والمكونات المغذية للمصانع والمنتجات التكنولوجية، وبالنظر إلى أن القناة ممر استراتيجى بين آسيا وأوروبا، وأنها تختصر 15 يومًا على الأقل مقارنة بطريق رأس الرجاء الصالح، وأن نمو السكان والاستهلاك العالميين يتجاوز احتمالات تباطؤ الاقتصاد، فإن حصة القناة من التدفقات العابرة تتجه إلى الزيادة فى كل الأحوال، وهو الأمر الذى أعاد الخبراء المؤيدون للمشروع التأكيد عليه بعدما أعلنت هيئة قناة السويس الأرقام ومؤشرات الأداء فى السنوات التالية لافتتاح القناة الجديدة.
النقطة المتصلة بالأولويات يُرد عليها بأن أمور الاقتصاد والتنمية فى الدول تختلف عن إدارة الميزانية الشهرية لأسرة صغيرة.
فإذا كان ربّ الأسرة مُطالبًا بتدبير أولويات أسرته، حتى لو جار على أمور أخرى مهمة، كالادخار والاستثمار والترفيه وغيرها، فإن الدولة مُلتزمة بالموازنة بين كل الأمور بالتزامن وعلى قدم المساواة، لذا يتعين عليها أن تكفل الطعام والصحة والتعليم، ولا تغض الطرف عن التنمية والترفيه والاستثمار والبناء واستراتيجيات المستقبل، وليس من المنطقى مطالبتها بإغفال شق لصالح آخر، ولا يُمكن النظر إلى تلك النوعية من المطالب إلا باعتبارها مُزايدة شعبوية لتحصيل مكاسب سياسية، هكذا يقول مُفنّدو تلك الادعاءات.
أما القول إن إنفاق 64 مليار جنيه على الممر الملاحى الجديد خصم من فرص تنموية، كان يُمكن تحصيلها باستثمار تلك الأموال فى إرساء ركائز للتصنيع والإنتاج المُستدام، بما يتولّد عن ذلك من منتجات وفرص عمل، فإنه ينطوى على تسطيح للأمور، بالنظر إلى استدامة الإنتاج باعتبارها ماكينة وسلعة، وإغفال استدامة اقتصاد الخدمات والتسهيلات والتعهيد، فضلًا عن تجاهل أن القناة الجديدة وفرت تعاقدات لأكثر من 84 شركة محلية، وأكثر من 44 ألف مهندس وعامل، طوال فترة التنفيذ التى امتدت سنة كاملة، فضلًا عن آلاف من فرص العمل المباشرة وغير المباشرة منذ بدء التشغيل، والإسهام المباشر للتفريعة الجديدة فى مشروع محور تنمية القناة الذى يُتوقع أن يجتذب 100 مليار دولار خلال الأعوام العشرة المقبلة، توفر عشرات الآلاف من الوظائف.
والنقطة السابقة مثلها الحديث عن اختلال ميزان جدوى المشروع مقابل التكلفة، وهو قول يبدو أنه ينظر للقناة الجديدة باعتبارها تفريعة بطول 35 كيلومترًا، متجاهلًا أن المشروع يشمل تعميق تفريعات البحيرات المرة بطول 37 كيلومترًا، وتدبيش أجناب القناة بطول 100 كيلومتر، وتعميق المجرى الملاحى إلى مستوى 66 قدمًا لاستيعاب سفن الحاويات ذات الغواطس العملاقة، مقارنة بمستوى 35 قدمًا فى القناة القديمة، فضلًا عن تدشين 10 مراكز إرشاد، ووضع 120 شمندورة مُضاءة بالطاقة الشمسية ومرتبطة بنظام إلكترونى للملاحة والتوجيه، والأهم تقليص زمن العبور فى الاتجاهين من 22 إلى 11 ساعة فقط، بما يقلص وقت الرحلة وكُلفتها ويزيد تنافسية القناة، وخلق مساحات جديدة صالحة للتنمية كمناطق للتعهيد والخدمات اللوجستية والارتكازات الصناعية، وبحسب بعض التقديرات فقد رفعت القناة الجديدة قيمة وجدوى مئات الملايين من الأمتار المربعة فى المنطقة المحيطة وعلى طول خط التماس الغربى مع الوادى.
بين القناة القديمة والجديدة
قبل 165 سنة نجح الفرنسى فرديناند دى لسبس فى إقناع الخديو سعيد بحفر قناة تربط البحر الأحمر بالمتوسط، وبدأ الحفر بعد 4 سنوات لينتهى خلال نوفمبر 1869، وتحصل الشركة الفرنسية التى أسسها صديق الخديو على حقوق الامتياز لمدة 99 سنة، ورغم الكُلفة المالية الباهظة، واستعباد قرابة مليون مصرى بحسب بعض التقديرات، عملوا فى الحفر بنظام «السُّخرة»، ووفاة ما يتجاوز 120 ألفا منهم تحت ظروف عمل قاسية وقصور فى التغذية والرعاية الصحية، والأهم أنه رغم نهب القناة قرابة قرن كامل حتى تأميمها فى العام 1956، لم يتحدث أحد عن مجانية المشروع، أو انعدام جدواه، أو مفارقته للأولويات، أو أنه تبديد للأموال والأرواح.
حققت قناة السويس منذ افتتاحها أكثر من 135 مليار دولار رسومًا عن عبور 1.3 مليون سفينة طوال 150 سنة، منها قرابة 100 ألف سفينة و26 مليار دولار خلال آخر خمس سنوات، بنسبة 8% من حركة العبور و20% من إجمالى الإيرادات خلال 3.3% فقط من فترة التشغيل. وبحسب أرقام جهاز التعبئة والإحصاء فقد استقبلت القناة 16 ألفًا و596 سفينة خلال العام 2013، ارتفعت بعد افتتاح القناة إلى 17 ألفًا و483 فى 2015، ثم قرابة 18 ألف سفينة فى 2018، بينما قفزت الحمولات الإجمالية من حوالى 900 مليون طن قبيل القناة الجديدة، إلى قرابة 4 مليارات طن فى العام 2018/ 2019، بحسب بيان وتصريحات سابقة للفريق مهاب مميش رئيس هيئة قناة السويس السابق.
المنحنى البيانى للإيرادات قفز من مستوى 4.3 مليار دولار فى 2008 و4.8 مليار فى 2009، إلى 5.3 مليار دولار فى 2018 و5.6 مليار فى 2019، وتُشير التقديرات إلى أنه من المتوقع أن يتجاوز 10 مليارات دولار خلال السنوات العشر المقبلة، فضلًا عن اجتذاب المنطقة الاقتصادية للقناة قرابة 3.6 مليار دولار، وتخطيط مشروعات أخرى بقيمة تقديرية 25 مليار دولار، من المُتوقع أن تقفز إلى 100 مليار دولار بحلول 2030، تلعب القناة الجديدة دورًا محوريًا فى جاذبية المنطقة لتلك التدفقات، وفى جدوى المشروعات الصناعية واللوجستية بالمنطقة، وعوائدها المستهدفة.
جرى تمويل التفريعة الجديدة محليًا، عبر شهادات مدتها 5 سنوات بعوائد ربع سنوية 12%، جمعت 64 مليار جنيه من أموال المصريين خلال ثمانى أيام فى سبتمبر 2014، واستعادها أصحابها مؤخرًا بعدما انتهت مدّتها، من خلال إيرادات القناة ونسب الزيادة فى عوائدها، بحسب تصريحات سابقة لـ«مميش»، دون تكبيد موازنة الدولة أية التزامات، أو المساس بموارد الخزانة العامة، أو مُتحصلاتها السنوية من إيرادات القناة.
ربما لا تكون القناة الجديدة بالعظمة نفسها التى يملكها المجرى القديم، لأنها فى النهاية إضافة إلى أصل وليست مشروعًا جديدًا استُحدث من فراغ، لكنها بالدرجة نفسها ليست مشروعًا فاشلًا كما قيل من بعض معارضيها على أرضية سياسية، وليست «طشت» أم وجدى غنيم كما حاولت وجوه الإخوان تصوير الأمر.
القناة الجديدة مشروع تنموى يقبل الاختلاف بشأنه، والجدارة للأرقام والجدوى المتحققة على الأرض، أما سؤال الجدوى فإنه يرتبط بالتزامات الدولة تجاه الحاضر والمستقبل، من حيث إنها التزامات واسعة المدى وطويلة الأمد ومغايرة تمامًا لالتزام موظف تجاه وجبة العشاء الأسرية، وإذا كانت كل الأمور تقبل الاختلاف على أرضية الفحص الجاد المتجرد، والرؤى الفنية والموضوعية المدعمة بالمعلومات والأرقام، فإن المكايدة والتوظيف السياسى لا يُمكن أن يكونا أرضية صالحة لاستقبال أى حوار جاد، وإذا انطلق الحوار من النظر إلى المشروع باعتباره إهدارًا لمليارات الدولارات دون جدوى، متجاهلين الدراسات والحسابات والأرقام ورؤى الدولة وخبراءها، فمن الطبيعى أن ينتهى الأمر إلى حالة من السباحة المجانية فى «طشت أم وجدى».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة