قرأت فى إحدى المجلات الثقافية مؤخرا ملفا تحت عنوان "رسائل إلى ساعى البريد" يضم موضوعا للمترجمة الإسبانية نويمى فيرو، تحت عنوان "ساعى البريد: سعيا لتجنب انقراضه"، حيث تناولت الأخيرة "نوستالجيا" الرسائل "الجوابات" الورقية القديمة، واللهفة إلى سماع ساعى البريد وهو ينادى على أسمائنا، ودقة المشاعر الإنسانية الواضحة التى كنا نشعر بها بين حروف تلك الأوراق، التى فقدناها مع التطورات التكنولوجية الأخيرة.
أنتمى إلى ذلك الجيل الذى شهد اندثار الجوابات الورقية وشرائط الكاسيت والهواتف المنزلية، وشهدنا أمام أعيننا ميلاد التكنولوجيا الحديثة، وهى تأكل الوسائل التقليدية القديمة، حتى أصبحت لغة العصر ووسائل التواصل الأكثر تميزا، لكننى أظن أننا مازلنا معلقين بتلك الأشياء حتى وإن بدت الآن بدائية للغاية.
شعرت وأنا أقرأ مقال المترجمة الإسبانية بمدى التأثير السلبى الكبير الذى أنتجته وسائل التواصل الحديثة، وكم المشاعر الإنسانية التى فقدت والبلادة الشديدة التى أصبح يعانى منها البعض من فرط تأثره بهذه الوسائل المنزوعة من المشاعر والأحاسيس، وكأننا أمام بريد ووسائل للمشاعر المفقودة.
فى الماضى كنا نبحث عن الرسائل الورقية "الجوابات" وننتظر أن تصل إلى المرسل إليه، ونتساءل فى داخلنا هل وصلت، هل قرأت رسالتنا، وتظل مشاعرنا متأرجحة ومحايدة أحيانا ناحية الطرف الآخر حتى تصل إلينا رسالة منه، أو لا نصل لشىء أبدا، ورغم ألم الانتظار، لكن لا حياة بدون انتظار، ودون شغف ولهفة، وأمنيات هنا وهناك تتطاير بين أوتار قلوبنا أملا فى رد أو رسالة من حبيب، ففى صناديق البريد طالما عثر الإنسان على أمل، وطالما عرف للألم معنى جديد.
الوسائل القديمة كانت أكثر إنسانية وشغفا، وكنا معها أكثر صبرا وأملا، كانت "الجوابات" صاحبة خصوصية عن تلك الكلمات التى أصبحت نكتبها بشكل اعتيادى فى التواصل الأكثر انتشارا الآن، الكلمات كانت تحمل لنا شعورا، والمسافات والخطوط كانت تصور لنا أشكالا ومشاعر، وكان للورق خصوصيته الرائعة التى كانت تنقل لنا رائحة المرسل الخاصة.
الآن أصبحت الأمور أكثر بساطة، وأكثر سطحية حتى تعبيراتها ومشاعرها، الآن أصبحت تعرف إذا كانت رسالتك قرأت أم لا، ومتى قرأها المرسل إليه، وأصبحت مشاعرنا أكثر انفعالا وبغضا أحيانا، لكننا فقدنا أيضا أهم ميزة كانت تميز هذه الرسائل وهى التقدير.
فى الماضى حين نهم بكتابة رسالة (جواب) إلى حبيب أو صديق، كنا نكتب ونختار الكلمات بعناية فائقة وننمق خطوطنا ومشاعرنا فى آن واحد، وحتى حين نسجل رسالة صوتية على شريط كاسيت، أو نتصل بالتليفون وننتظر أن يكون الآخر متواجد بالمنزل، كانت الأحاسيس تتشابك والآمال تختلط، وكانت كل هذه الأمور فى النهاية تحمل تقديرا واهتماما جميلا، وأحاسيس أكثر نبلا، بدلا من الريكوردات المتناثرة بلا هدف الآن فى "الواتس آب" كمثال.
فى النهاية أعتقد أننا تأثرنا كثيرا بفقدان هذه الوسائل، وأخذت الوسائل الجديدة الكثير من مشاعرنا، وصدرت للبعض مشاعر أكثر بلادة، وأصبح "اللايك" أو "الإيموشن" أحيانا بديلا للرد، هكذا بمنتهى البساطة وسطحية التعامل مع الآخر، وفقدنا شيئا فشىء الشغف، وفقدنا بوعى وبدون وعى مشاعر أكثر إنسانية ونبلا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة