الإقالات المتواترة ربما كانت أهم ما يميز الإدارة الأمريكية منذ اليوم الأول لتنصيبه فى البيت الأبيض، خاصة وأنها طالت قطاع كبير من كبار المسئولين الأمريكيين، وعلى رأسهم وزراء الخارجية والدفاع، بالإضافة إلى كبار المستشارين، إلا أن إقالة وزير البحرية ريتشارد سبنسر مؤخرا، ربما تثير العديد من التساؤلات حول علاقة البيت الأبيض بالجيش فى الولايات المتحدة فى المرحلة الراهنة، خاصة وأنها جاءت بعد شهور قليلة من استبعاد وزير الدفاع جيمس ماتيس، والذى اختاره ترامب ليكون أول وزير للدفاع فى حقبته، وذلك بعدما استبعده سلفه باراك أوباما من منصبه كقائد للقيادة المركزية الأمريكية.
ولعل قراءة قرار إقالة سبنسر لا يمكن أن تتم بعيدا عن المشهد الأمريكى برمته، والذى يشهد تغييرات جذرية، لا تقتصر على القيادات فى وزارة الدفاع، ولكنها تمتد إلى الاستراتيجية التى تتبناها الإدارة الأمريكية فى المرحلة الراهنة، فى العديد من مناطق العالم، سواء فيما يتعلق بمسألة الانتشار العسكرى الأمريكى بالخارج، أو حتى التطورات السياسية بالداخل، والتى تتفاقم إلى حد كبير مع مواصلة حملات الديمقراطية لتشويه صورته أمام الرأى العام، قبل انطلاق الانتخابات الرئاسية والمقررة فى شهر نوفمبر من العام المقبل، والتى وصلت إلى حد المطالبة بعزله، فى سابقة لم تحدث منذ عقود طويلة من الزمن، وتعكس فجوة الانقسام العميقة التى تضرب المجتمع الأمريكى.
إقالة جاهزة.. ترامب لوح بعصاه تجاه سبنسر منذ العام الماضى
وعلى الرغم من أن الحديث يدور حول ارتباط قرار إقالة سبنسر يرتبط برفضه لقرار الرئيس ترامب بإلغاء حكم أصدره القضاء العسكرى بحق أحد الجنود، الذين ارتكبوا جرائم حرب، إلا أن مثل هذا الإدعاء ربما لا يقدم الصورة كاملة، خاصة وأن الحديث عن استبعاد المسئول الأمريكى، ليس جديد، حيث بدأ منذ العام الماضى، عندما طالبه ترامب بإصلاح حاملة الطائرات العملاقة "يو إس إس جيرالد فورد" قبل يوليو، وإلا ستكون عصا الإقالة بانتظاره، وهو الأمر الذى فشل وزير البحرية المقال فى تحقيقه، بينما تأجل قرار الإقالة.
وهنا يمكننا القول بأن قرار إقالة سبنسر كان معدا منذ يوليو الماضى، إن لم يكن قبل ذلك، خاصة وأن التلويح بالاستبعاد منذ عدة أشهر يمثل انعكاسا صريحا لتوتر العلاقة الشخصية بين الرئيس والقائد العسكرى، إلا أن تأجيله ليتزامن مع قرار القضاء العسكرى الأمريكى، يحمل فى طياته أبعادا أخرى، يسيطر عليها غالبا الجانب السياسى، فى ظل حالة من التعاطف، سواء من قبل الجنود الأمريكيين أو حتى المواطنين العاديين مع الجندى المتهم بارتكاب جرائم حرب، خاصة أن الجريمة جاءت بحق أسير ينتمى لتنظيم داعش الإرهابى، وبالتالى فلم يحظى بأى تعاطف من قبل المجتمع.
شعبية ترامب تبدو كبيرة للغاية بين الجنود الأمريكيين، فى ظل انحيازه الصريح لرغباتهم، بدءا من قراراته المتواترة بالانسحاب من مناطق الصراع، وحتى تدخله الصريح للدفاع عن مواقفهم، بالإضافة إلى حرصه الدائم على التواصل معهم مباشرة خلال زياراته إلى مناطق تمركزهم، وهو ما يبدو واضحا فى ارتدائهم للقبعات التى تحمل شعار حملته الانتخابية الأولى "لنجعل أمريكا عظيمة مجددا".
خلافات أم انقسام؟.. خصوم ترامب يحاولون إثارة الانقسام بين الرئيس والجيش
وتمثل حالة الجدل حول قرار ترامب بالعفو عن الحندى الأمريكى استمرارا لخلافات عدة بين الإدارة وقيادات البنتاجون حول العديد من القضايا، أخرها قرار الانسحاب من سوريا، تزامنا مع العدوان التركى على الأكراد، والتى اعتبرها قطاع كبير من المتابعين تخليا أمريكيا عن الحليف، الذى لعب دورا رئيسيا فى الحرب على تنظيم داعش الإرهابى، مما يقوض الثقة فى واشنطن فى المستقبل، إلا أن الجدل الحالى ربما لا يصل إلى درجة الانقسام بين الرئيس والمؤسسة العسكرية، فى ظل المرونة التى يبديها ترامب فى التعامل مع العديد من رؤى قيادات البنتاجون.
فعلى سبيل المثال، استجاب الرئيس الأمريكى لمطالبات القيادات العسكرية الأمريكية بالاحتفاظ بعدد من الجنود على الأراضى السورية لحراسة حقول النفط فى منطقة شمال سوريا، وبالتالى احتفظت واشنطن بمئات الجنود مرحليا لتحقيق هذا الهدف، وحرمان الخصم الروسى أو تنظيم داعش الإرهابى من الوصول لها.
إلا أن ما يمكننا تسميته بمحاولات إثارة النزعة الحقوقية، فى القرار الأمريكى تمثل محاولة جديدة، سواء من قبل الإعلام أو خصوم الرئيس السياسيين، فى إطلاق حملة جديدة، تزامنا مع محاولات عزله التى يناقشها الكونجرس فى المرحلة الراهنة، على خلفية اتصاله الهاتفى مع نظيره الأوكرانى حول ضرورة الكشف عن أنشطة مشبوهة لنجل منافسه السياسى جو بايدن.
إعادة هيكلة.. قيادات جديدة لمواكبة استراتيجية مستحدثة
ولكن بعيدا عن الجوانب الشخصية والسياسية المرتبطة بقرار ترامب، تبقى هناك عوامل أخرى ترتبط إلى حد كبير بالاستراتيجية العسكرية الجديدة للولايات المتحدة، والتى يسعى ترامب إلى اعتمادها فى المرحلة المقبلة، والتى ظهرت بجلاء فى الخطوات التى اتخذتها واشنطن فى الأشهر الماضية، وعلى رأسها الانسحاب من مناطق الصراع المشتعلة، كسوريا وأفغانستان، بالإضافة إلى استبدال مناطق تمركز القوات الأمريكية فى أوروبا وآسيا فى المستقبل القريب، فى ظل التوجه الأمريكى نحو بولندا فى شرق أوروبا، وكذلك رغبتها فى التواجد فى فيتنام، وذلك لحصار خصوم واشنطن التاريخيين، وعلى رأسهم روسيا والصين.
رؤية ترامب التى تقوم على إعادة هيكلة الورقة العسكرية على ما يبدو تمثل مبررا مهما، ليس فقط لإقالة سبنسر، ولكن أيضا لما يثيره خصومه حول تداعيات قرار العفو الرئاسى عن الجندى الأمريكى المتهم بارتكاب جرائم حرب، على مستقبل الوجود العسكرى فى العديد من الدول حول العالم، حيث أصبح استمرار القوات الأمريكية فى مناطق الصراع المشتعلة، وعلى رأسها تلك الدول المدججة بالميليشيات الإرهابية، محل شك إلى حد كبير.