نحن أمام تدفق واسع للأخبار والمعلومات، ومع هذا تبدو الحيرة أكثر لدى قطاعات تسعى لتفهم ما يجرى فى المنطقة والعالم، لأن حجم ما يتم بثه وإلقاؤه فى الفضاء الإلكترونى والافتراضى يتجاوز بآلاف المرات قدرة الإفراد على الفرز والمعالجة، وعلى سبيل المثال، فإن أى شخص على مواقع التواصل يتلقى ما يتاح له من الأصدقاء والمقربين المتفقين معه، وغالبا ما ينحاز إلى وجهة نظر تمثل أحد زوايا النظر وليس كل الصورة.
ما يجرى فى لبنان أو العراق أو الجزائر أو السودان وسوريا وليبيا، مرهون بما يبثه كل طرف من أطراف الصراع، وحتى المنصات الإعلامية الكبرى، لكل منها خريطة لما تراه مهما، وما تراه غير مهم، وما تعالجه بتوسع وما تقوم بدفنه، ونسبة لا يستهان بها مما يتم بثه بكثافة على مواقع التواصل، هو مواد موجهة، ومدفوعة لصالح هذا الطرف أو ذاك.
ونقول هذا بمناسبة استسهال البعض على مواقع التواصل، إصدار أحكام على الأحداث والأشخاص فى أحداث لبنان أو العراق، ويفعلون ذلك بكل يقين، بينما هم أسرى المساحات الضيقة لشاشات محمولة. ونحن هنا نتحدث عن الأشخاص العاديين وليس هؤلاء الذين ترتبط أراؤهم بمصالحهم أو انحيازاتهم الاقتصادية والسياسية، ويظل السؤال: هل يتيح عصر المعلومات بالفعل المعرفة والقدرة على الفهم للجمهور أم أنه يضاعف من الحيرة ويجعل التغيير والحوار أكثر صعوبة؟ ولماذا تفرض قضية أو عنوان نفسه على جمهور العالم الافتراضى، ويتراجع الاهتمام بموضوع أقل أهمية.
مثلا يبدو الاهتمام بما يدور فى لبنان أكبر مما يدور فى العراق، وكيف تراجعت العناوين التى تعرض ما يجرى فى السودان بالرغم من أن الأحداث لم تنته، فيما يتعلق بلبنان كان التركيز طوال أسبوع على مظاهر الاحتفال والبهجة وتجاهل خطابات ومشاهد أكثر تعبيرا عن مطالب المتظاهرين، تراجع الاهتمام بما بعد استقالة حكومة الحريرى، وسيناريوهات المحتجين للتعامل مع الموضوع، والبحث عن إجابة حول من يحل مكان الطبقة السياسية المطلوب إزاحتها كلها، وكيف يمكن أن تتجاوز الاحتجاجات الدخول فى التكرار والجمود؟
طبعا هذه التساؤلات يجيب عنها اللبنانيون أكثر، مثلما يجيب العراقيون عن أسئلة المستقبل، لكن الأمر يتعلق بحجم ما يتيحه وزحام العناوين والفيديوهات والتريندات التى تسيطر على عقول المستخدمين وتنتزع منهم فرصة التفكير بحرية أو التحاور بعيدا عن تأثيرات الضجيج الافتراضى.
وقد أشرت من قبل إلى أن إصلاح أحوالنا أو مناقشة قضايانا الأهم يصبح أكثر صعوبة يوميا فى وجود عالم افتراضى يتفوق على نظيره الطبيعى، حيث تسود «المناكفات» السريعة، وتختفى فرص النقاش الجاد، مع جمهور أغلبه متعطش لإعلان الرأى فى قضايا ربما لا يعرف عنها أكثر من عنوان فى عالم يفرض علينا أخباره، وما نناقشه من موضوعات وطريقة الحوار، وزمن التحاور، وتفقد الموضوعات المهمة قيمتها وتأثيرها لأنها أثقل دما، بينما تعوم الموضوعات الأكثر خفة مع تفضيل الملخصات، تتيح إصدار أحكام، ناهيك عن الازدواجية والانحياز وهى أمور طبيعية فيما يتعلق بأصحاب الأيديولوجيات.
كل هذه التفاصيل تعيد طرح السؤال عن مدى الاستفادة من عصر المعلومات فى الحصول على معرفة أكثر وفهم أعمق، بينما الواقع الحالى يشير إلى أن الأمر أصعب وأن التشويش يبدو أكثر من الفهم أو الاستيعاب.