د. شوقى عبدالكريم علام

فقه: «فتبينوا» نحو تكوين وعى رشيد.. الوطن

السبت، 09 نوفمبر 2019 10:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تقرر فى أصول الاجتماع البشرى أنّ «الإنسان مدنىٌّ بطبعه» ولا يمكن أن يحيا الإنسان بمفرده، بل لابدّ من أناسٍ آخرين يشاركونه تعاملاته وأحواله وشؤونه؛ فلمّا كانت حاجة الإنسان ماسة إلى الاجتماع مع غيره ممن يُشبهه من بنى جنسه، سُمّيت البٌقعة التى يستوطنها الإنسان وطنا، ويمتد هذا الوطن فى دوائره المختلفة ليكون مفهوم الدولة فى عصرنا الحديث، وهى التى لها مكونات ثلاثة: أرض وشعب وسلطة، و«كلّ أمة لابدّ لها من وطن» كما يُعبّر ابن خلدون.
 
فكلّ بقعة جغرافية وُلد فيها الإنسان أو نُسب إليها على أنها تمييز له مغاير عن غيره من حيث الانتماء والتجنس فهى وطن له، تترتب عليه حياله مجموعة من الإجراءات والقوانين ومن ثمّ الحقوق والواجبات، فإقليم الدولة التى ينتمى إليها الإنسان ويحمل جنسيتها بحسب التقسيم الإقليمى والقومى للدول الحديثة، يُعدّ وطنًا للإنسان.
 
ولقد كان راسخًا فى فكر واعتقاد المسلمين منذ عهد سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وممارسته العملية أنّ للوطن مكانة عظيمة، يحيا الإنسان لأجل هذه القيمة، ويموت فى الدفاع عنها، وقد كان لرسول الله وطن يحنّ إليه، ويسعد بسماع أخباره، ويبكى لفراقه كأىّ مشاعر طبيعية للإنسان تجاه موطنه ومحلّه الذى يشعر بالانتماء إليه.
 
أخرج البيهقى فى «شعب الإيمان» وغيره عن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: لما أصرّت قريش على معادة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وإخراجه من مكّة، وقف الرسول فى مكان يقال له «الحَزْوَرة» –وهو موضع سوق بالقرب من مكة - نظر إلى مكة، ثمّ قال مُتحسّرًا: ما أطيبك، وأحبك إلىّ، ولولا أن أهلكِ  أخرجونى منكِ ما خرجت»، وفى رواية: «ولولا أن قومكِ أخرجونى ما سكنت غيركِ».
 
يذكر بن بطال فى شرح صحيح البخارى، أنّ الله عز وجلّ جبل النفوس على حبّ الأوطان والحنين إليها، وقد فعل ذلك رسول الله عليه الصلاة السلام، وفيه أكرم الأسوة، وأَمَرَ أمته سرعة الرجوع إلى أهلهم عند انقضاء حاجتهم فى أسفارهم».
 
وقد كان السلف رضوان الله عليهم يُدركون هذا المعنى، فيقول إبراهيم بن أدهم: «ما قاسيت فيما تركت شيئًا أشدّ علىّ من مفارقة الأوطان».
 
حب الأوطان من الإيمان والترجمة العملية على هذا الحب، هو الإخلاص له، والتفانى فى الذود عنه والتضحية فى سبيله بكلّ غالٍ ونفيس، كل هذا فى إطار الوفاء والانتماء.
 
ولا ريب أنّ الخير الذى يتحصّل عليه الإنسان، والأمان الذى يحققه له الوطن يُنشئ حُرمة بين الإنسان ووطنه تُشبه حُرمة الأبوين، وهذا المعنى عبّرت عنه أمّة الهند فى الأدبيات المنقولة عنها، حيث قالت: «حرمةُ بلدك عليك مثل حرمة أبويك؛ لأنّ غذاءك منهما، وغذاءهما منه». 
 
بل المفارقة للوطن والخروج من الديار يعد كل ذلك مساويًا لقتل النفس، كما ذكر الله تعالى فى القرآن: «وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ» «النساء: 66».
 
وفى أخبار مكّة للأزرقى لما رجع رسول الله إلى مكّة، وهى وطنه، يوم الفتح، أمر أحدهم أن يذكر شعرًا بين يديه فى مدحها، فمما قيل وابتهج به الرسول الكريم:
 
 يا حبذا مــكة من وادى *** أرض بها أهلى وعـوادى
 أرض بها أمشى بلا هـادى *** أرض بها ترسخ أوتـادى
 
ومع هذ التأكيد الشديد والمعنى الذى يُشبه التواتر عن الأئمة والعلماء فى حبّ الوطن، نجد بعض الصيحات والكلمات التى تتردد على الأسماع من بعض جماعات الإرهاب الذين تخلخلت لديهم المفاهيم، واختلت عندهم المضامين، يدعون الناس إلى الكفر بالوطن، والدعوة إلى طمس المحبّة الذاتيّة له لأغراض سياسية، كما فى أدبيات جماعة الإخوان كما نُقل عنهم ذلك.
 
فحسن البنا يقول: «إننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة، وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية».
 
وسيد قطب يقول: «وطن المسلم الذى يحنّ إليه ويدفع عنه ليس قطعة أرض، وجنسية المسلم الذى يُعرف بها ليست جنسية حُكم».
 
فلو حللنا هذين النصّين تحليلًا موضوعيًّا وتشكّلاتهما فى الوعى الجمعى لدى أتباع من يعتقد صدق قائلين هذا الكلام لوجدنا النتيجة ما نُقل عن سيد قطب نفسه «ما الوطن إلا حفنة تُرابٍ عفن»، فالنتيجة المترتبة على مثل هذه الأقوال أن يُنظر للوطن نظرة دُونيّة، ويترتب على النظرة الدونية تلك هشاشة دواعى الوطنية والدفاع عن الوطن وسهولة التفريط فيه، والخطأ الحاصل فى الكلام السابق هو الخلط بين «الولاء، والانتماء» فالولاء لا يُشكك أحد فى وجوبه؛ لأن المسلم مُطالب بالولاء والحبّ القلبى لغيره من المسلمين، لكن الانتماء للوطن لا يُنافى الاعتقاد الدينى، فلم يمنع الولاء للإسلام لدى الصحابة والسلف من الانتماء لأوطانهم، فيقال فلان القُرشى، وفلان الجُهنى، وفلان الحبشى، وفلان الفارسى، وفلان الشامى.. وهكذا.
 






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة