هى قوة شيطانية، بلا تاريخ أو حضارة تذكر، بل إنها اتخذت لنفسها وطنا بالتبني، حتى أن طريقة الكتابة استعارتها من العرب، إنها باختصار بمثابة "غراب" يقلد مشية "الطاووس"، حيث يشعرون بعقدة نقص تجاه "مصر" التي أذلتهم، وسحقت جيوشهم، لكن "العثمانلي" للأسف نسى ذلك تماما، لذا تجده الآن يناطح أسياده العرب، تماما كما وصف عالم الجغرافيا المصري الراحل الكبير "جمال حمدان" تاريخ تركيا القديم والحديث، كاشفا عن كراهيتهم للعرب، وكتابة تاريخ أسود فوق جثث الآلاف من العرب الأبرياء.
لقد ساهم التركي البجم "رجب طيب أردوغان" في إعادة كتاباته تاريخ الأتراك الأسود في البلاد العربية والإسلامية، طبقا لما أكده "جمال حمدان" في كتابه "استراتيجية الاستعمار والتحرير" أن الأتراك قوم همج، لم يتحدوا في دولة متحضرة، فهم يحاربون بعضهم من أجل الكلأ والمراعي، وفي مطلع القرن الخامس عشر أظهر الأتراك بربريتهم وغباءهم السياسي، حينما اتجه "تيمورلنك" إلى الأناضول لمحاربة العثمانيين، وانتصر على العثمانيين في "معركة أنقرة عام 1402"، حين انكسرت قوات "بايزيد الأول" وسقط في الأسر.
وكأن التاريخ يعيد نفسه الآن، فعندما تم عرض مسلسل "ممالك النار" قامت قيامة الأتراك حين رأينا "ياسين أقطاي" يكيل الاتهامات لصناع العمل ويتهمهم بالعنصرية، ناسيا تماما وهو يشيد بالدراما التركية أن "قيامة أرطغرل" ظل طوال 150 حلقة يمجد العنصر التركي في حين أغفل الدور العربي في مساندة الدولة العثمانية منذ نشأتها الأولى وحتى وصول رجلها المريض "السلطان عبد الحميد" إلى خط النهاية بسقوطها المزري وانتزاع إمبرطوريته من صفحات التاريخ.
بحسب القصة التي كتبها ببراعة مؤلف "ممالك النار" محمد سليمان عبد المالك، كانت قوات سليم الأول أضعف من أن تنتصر على المماليك في معركتي "مرج دابق والريدانية"، لكنهم استخدموا طريقتهم التركية الأصيلة في الخسة، فعن طريق الرشوة والخيانة استطاعوا استمالة "خاير بك وجان بردي الغزالي"، وسقطت مصر في عام 1517 في يد رعاع الاستبس، وكان الطابع الاستعماري للاحتلال التركي هو نهب ثروات البلاد المصرية والعربية آنذاك، لتلبية نفقات السلاطين والحرملك وسهرات الفجر والمجون، ومن هنا تجسدت على أرض المحروسة كل مظاهر الاستعمار الاستغلالي الابتزازي، فقد كانت تركيا دولة استعمارية تعتصر موارد وخيرات الولايات بلا مواربة، لتحشدها في خزانة السلطان، الذي ينفق منها على نزواته الشاذة.
وعلى حد قول "جمال حمدان" فقد طبق العثمانيون في حكمهم السياسي طريقتهم "الاستبسية" في معاملة الحيوان، هم انتقلوا من رعي قطعان الحيوان إلى رعي قطعان البشر، فكما يفصل الراعي بين أنواع القطعان، فصل الأتراك بين الأمم والأجناس المختلفة، عملا بمبدأ فرق تسد، وكما يسوس الراعي قطيعه بالكلاب، كانت الإنكشارية كلاب صيد الدولة العثمانية، وكما يحلب الراعي ماشيته، كانت الإمبراطورية بقرة كبرى عند الأتراك للحلب فقط.
المسلسل الذي طبق مؤلفه أقصى معايير الحيادية في معالجته للتاريخ، أكد أن مصر ظلت وستظل تمثل للأتراك كل العقد، وليس عقدة وحيدة، فهي الدولة التي يحتسب عمرها بعمر هذا الكون، بينما تركيا بلا تاريخ أو هوية، وربما شيئا من هذا القبيل نجده في سياسات "أردوغان" الحالية في تعامله مع مصر بقدر كبير من الاستفزاز، ويرجع السبب المباشر في ذلك إلى أن جيش مصر العظيم بقوته قديما وحاليا يمثل أبرز العقد للأتراك، فقد أعطى دروسا قوية في الفنون العسكرية للجيش التركي، وسحقه أكثر من مرة في معارك ضروس.
ورغم أنه لا يزيد عن 14 حلقة فقط فإن "ممالك النار" مثل شوكة في حلق "أردوغان" وأعوانه حين جسد بحرفية عالية دموية سلاطين الدولة العثمانية، والتي سعت لاحتلال الدول العربية، وامتصاص خيرها وكنوزها، وهي الحقيقة التي لا ينكرها سوى الأتراك وحدهم، كما جاءت على جناح سيناريو متقن لمؤلف شاب امتلك حنكة الكبار في رصد وقائع التاريخ مستلهما العبروالعظات، ورسم في الوقت نفسه ملامح الشخصيات بدقة متناهية، فضلا عن أداء تمثيلي غاية في البراعة والإبداع من جانب كافة النجوم العرب الذي شاركوا في تناغم وانسجام في تجسيد الأحداث بطريقة سلسلة ومعبرة دون أدني افتعال.
نعم أبدع "خالد النبوي" في تجسيد شخصية "طومان باي" بأداء هادىء يميل إلى الرصانة، وهو ما يظهر أن لديه إدراك دفين بأن الفعل صفة إنسانية، لذا حرص على أن تكون المأساة ذات طول أو حجم يتناسب مع قدر وحجم الفعل الذى تحاكيه دون تركيز على تفصيلات لا تخدم الفكرة، وحتى لا يمل الجمهور.. إنها الحرفية في الأداء العذب النقي بأقصى صورها.
على الطرف الآخر من ضفة الإبداع وإبهار الأداء يأتي "محمود نصر" الذي امتلك السمات النفسية والسلوكية والجسمانية لشخصية "سليم الأول"، حين مارس الإبداع الذاتي، وفتح الطريق أمام تنوعات لا حصر لها في مجال التجسيد الحي، ويبدو أن ذلك قد تطلب من "نصر" الاطلاع على العديد من القراءات التاريخية لهذه الشخصية، ما أمكنه امتلاك مفاتيحها على مستوى الصوت والجسم والحركات العصبية تارة والصمت المريب تارات أخرى، ما يؤكد أن جسم هذا الممثل هو شيء من الصعب التحكم فيه وترويضه، ومن ثم فإن صوته استعمله ببراعة في التعبير عن الأفكار في بعض الوظائف كالأكل والتنفس ومخاطبة جنوده بحماسة، وذلك كله دون أدنى شعور بالإجهاد أوالبحة وعلو الطبقات وفساد المخارج، ما أضفى على الأداء مزيد من الثقة والتلاؤم النفسي لهذا الممثل الذي يتطور يوميا في أدائه.
وها نحن نقف أمام القدير "رشيد عساف" فقد جاء في دور "قانصوة الغوري" متألقا كعادته في أداء الأدوار التاريخية بصوته القوى وبنيانه الذي يناسب الشخصية، ليؤكد لنا أن التمثيل من أهم فنون الإقناع الذي يولد لغة المشاعر، والفوز بقلوب الآخرين عبر بصيرة نافذة، في إشارة واضحة وصريحة عبر أدائه إلى أن هذا الفن التمثيلي هو تجسيد كامل لواقع شخصية ما باحاسيسها ومشاعرها وطبيعتها، بسلبياتها وإيجابياتها دونما إفراط ومبالغة أو تفريط وإجحاف في الحس والأداء، بل إنه دوما يحتفظ بمخزون جاهز لكل عاطفة، في الحالات العصبية مثلا يبرع في أن يكشر عن أسنانه ويديرعيونه ويقلبها عند الغيرة، ويزيد وجهه سخفا وانخسافا عند البكاء، إنه يلتجئ الى مشاعر حقيقية ونمو طبيعي في التجسيد وعدم غياب الادراك لدى ممثل من الوزن الثقيل.
وعلى ذات الدرب يأتي المخضرم "عبد المنعم عمايري" في دور "بايزيد" في قدرة فائقة على استخدام الجسد والصوت والإيماءة والنبرة والمحافظة على التقاليد والأساليب الحرفية، فموهبة هذا الممثل لا تكمن في الاحساس فقط بل في ترجمة العلامات الخارجية للاحساس ترجمة أمينة دقيقة كما يؤكد "ديدرو" الذي يقول: "إن الممثل ليس مرادفا للشخصية، إنه يؤدي دورها ويحسن أداؤه بحيث تظنون أنه الشخصية ذاتها، يستعمل الإيهام من أجلكم أنتم، أما هو فيعلم تماما أنه و الشخصية اثنان لا واحد"، بل برع فيه تماما "عمايري" في "ممالك النار"، حين استطاع الإلمام بالعواطف والمواقف والدوافع الإنسانية لسطان معزول من جانب إبنه "سليم" وذلك كله على قصر مساحة الدور.
نأتي للعنصر النسائي في حسن الأداء والتعبير كما جاء في أداء "كندة حنا" التي استخدمت كامل مهاراتها وقدراتها في تجسيد دور "نلباي"، حيث أخلصت في تجسيدها للشخصية بالعيش في مجتمع الدور وبإحساس صادق، ولقد بدا الأداء الموحد بين كافة فريق العمل على اختلاف أعمارهم وخبراتهم التمثيلية سمة واضحة في الإحساس بالتناغم والترابط اللذين ينتجان عن جهد الممثلين التعاوني الشامل، إذ كانوا منسجمين مع العروض الفردية الأخرى، وبرز هذا الأداء الموحد عندما تأقلم كل ممثل مع حاجيات العمل ككل، وكان في نفس الوقت على بينة من طرق تمثيل زملائه الآخرين ومواطن ضعفهم وقوتهم.
نجح كل في دوره فعلا رغم أن المساحة الزمنية كانت ضنينة جدا، وهنا ألفت الانتباه إلى براعة "يارة قاسم" في دور "تولاي" الشريرة التي انجذبت لطومان باي، رغم أنها حاولت قتله في السابق، وكذا "ديمة قندلفت" في شخصية مريم شقيقة "توما" حين عزفت على أوتار مشاعرها الرقيقة بالخوف والفزع دوما على اخيها، فضلا عن لمسات الكبار عبر إطلالات قصيرة جدا: "منى واصف، زيناتي قدسية، فتحي الهداوي، حسن عويتي، محمود جمعة"، وكذلك "عبد الرحيم حسن، رامز الأسود، محمد حاتم ، خالد كمال، مروان أبو شاهين، ريمي سرميني، وغيرهم من باقي فريق العمل الذين يصعب ذكرهم كاملا".
ولايخلو المسلسل من عناصر الإبهار الأخرى على مستوى الإخراج للإنجليزي "بيتر ويبر، وعزام فوق العادة" والمونتاج لـ "نادية بن رشيد"، وموسيقى"أمين بوحافة" الرائعة التي ساهمت في تهيئة اجواء الصراع والمعارك بطريقة مبتكرة، وكذلك والمكياج والديكور والإضاءة، وكلها عناصر ساهمت إلى حد كبير في جودة الصورة، ونقل الواقع المرير الذي صنعه العثمانين بقدر هائل من الترجيديا الإنسانية التي تجسد المأساة في مصر والعالم العربي، والفضل الأكبر فوق كل ذلك لمدير الإنتاج "ياسر حارب" في تحمل المسئولية البطولية في خروج هذا العمل الضخم للنور بطريقة احترافية ليسجل اسمه في تاريخ الدراما العربية بحروف من نور.
وفي النهاية دعوني أتوقف قليلا أمام قول "محمد سليمان عبد المالك" مؤلف المسلسل: كنت أتوقع من البداية وحتى قبل عرض المسلسل أن يثار حوله الجدل على مستويات متعددة منها نقطة صحة الوقائع التاريخية ودقتها، لكن ما أؤكد عليه هو أن العمل الدرامي التاريخي دوره ليس توثيق التاريخ بقدر ما هو محفز على التفكير والبحث وإعادة قراءة الأحداث" وهنا أشاطره الرأي تماما، فقد بدا لي من إيجابيات هذا المسلسل أنه بدد الكثير من الهالات التي وضعت حول شخصيات أو أحداث بعينها في التاريخ، وبمرور السنين أصبحت واقعا لا يناقش، نعم "ممالك النار" بدد كثير من تلك الهالات خاصة فيما يتعلق بالدولة العثمانية، وهذا الفعل كان مؤلما للبعض فما كان منهم سوى مهاجمة العمل، كما جاء على لسان مستشار النظام التركي البغيض "ياسين أقطاي".
لقد ذهب "أقطاي" إلى القول : "إن وجهة نظر المسلسل مريضة ومتهمة إلى أبعد الحدود، فها هو يتضح للجميع أن وجهة النظر المريضة هذه لم تنس التاريخ الذي نحاول نسيانه لنفتح صفحة جديدة ونتعانق مع إخوتنا العرب، بل إن أصحاب وجهة النظر هذه يحاولون التعمق في هذا التاريخ بشكل هستيري ويبررون جرائمهم التاريخية"، ولست أدري عن أي تبرير يتحدث هذا المأفون وأي جريمة في مقاومة "طومان باي" لغطرسة القوة التي انتهجها "سليم الأول" في غزوه لمصر، والعجيب في الأمر أنه يرى شخصية بطل مسلسل "ممالك النار" - في كشفه لقبح الدراما التركية - لا تحمل وصفا سوى إظهار مقاومة وحشية ومسكينة أمام الدولة العثمانية..يالا العجب!.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة