أعز شىء يحبه الإنسان وينتمى إليه ويعتز به ويفديه بالروح والنفس، ويبذل فى سبيله الغالىَ والرخيصَ بعد حبه لله تعالى، هو الوطن الذى نشأ وعاش فيه، فحبُّ الوطن من الإيمان، وهو دليل على سلامة الفطرة، ورجاحة العقل، ونقاء الضمير، وصفاء القلب، فالوطن هو أصل الإنسان ومنشؤه الأول، والوطنُ هو المدرسة الأولى التى يتلقى الإنسان فيها قيمه وأخلاقه وتقاليده، فكرامةُ الإنسان من كرامة وطنه، وعزته فى عزة وطنه، ورفعته فى رفعة وطنه، وهذا المعنى، أى الوطنية، هو من معالم الإنسانية الراقية والحضارة السامية، والوطن هو المعنى الأصيل الثابت الذى تتوارد عليه الأجيال، وتتسارع فيه الأحداث، وتمر عليه الدهور، وتتبدل على أرضه الأحوال، وهو باق ثابت لا يتغير ولا يزول، يمدُّ الأجيال القادمة بالخير والنماء، كما أمد الأجيال السالفة بالحب والعطاء، وإن الذين يعيشون ويخلدون خلود الأوطان هم الذين خدموا أوطانهم بجد وإخلاص، وتفانوا فى رفعة شأنها بعزم وإصرار، وقدموا دماءهم وأرواحهم هينة رخيصة للزَود عن أرضها، وحماية حدودها، ومن أجل حفظ أمنها وسلامة شعبها، هؤلاء هم حماة الوطن ورجاله الأبرار تفنى أجسادهم وتبقى أرواحهم حية بيننا، شاهدة علينا، منادية فينا بصوت تسمعه القلوب والأرواح، إن وطنكم أمانةٌ فى أعناقكم، قد أبقاه الله محفوظًا مصانًا وفديناه بالمهج والأرواح، فلا تضيعوه بالتهاون والدعة والإهمال والكسل.
إذا كان هذا هو شأن جميع الأوطان، فإن الأمر يزداد أهمية إذا كان هذا الوطن هو مصر، فمصر هى كنانة الله فى أرضه، وهى مركز المعمورة، ومنبع الحضارات الإنسانية على مر التاريخ، وعلى صفحات جدرانها ومعابدها سُجلت بأحرفٍ من نور، معالمُ الحضارة المصرية الخالدة التى لا يعرف التاريخ قبلها حضارة، لذلك صدق قول من قال «إن كل بلد له تاريخ إلا مصر فهى وطن للتاريخ».
وهذا الكلام لا يقال مجاملة ولا عصبية بل هى شهادة كبار الكتاب والمؤرخين، فقد قال المؤرخ عمر بن محمد بن يوسف بن يعقوب الكندى، فى كتابه فضائل مصر المحروسة «فضَّل الله مصرَ على سائر البُلدان، كما فضَّل بعض الناس على بعض، والأيامِ والليالى بعضِها على بعض، والفضلُ على ضربين: فى دين أو دنيا، أو فيهما جميعا، وقد فضَّل الله مصر وشهد لها فى كتابه بالكرم وعظم المنزلة، وذكرها باسمها وخصها دون غيرها، وكرر ذكرها، وأبان فضلها فى آيات من القرآن العظيم، تنبئ عن مصر وأحوالها، وأحوال الأنبياء بها، والأمم الخالية والملوك الماضية، والآيات البينات، يشهد لها بذلك القرآن، وكفى به شهيدًا، ومع ذلك روى عن النبى، صلى الله عليه وسلم، فى مصر وفى عجمها خاصة، وذكره لقرابته ورحمِهم ومباركته عليهم وعلى بلدهم وحثه على برِّهم.. مع ما خصها الله به من الخَصْب والفضل، وما أنزل فيها من البركات، وأخرج منها من الأنبياء والعلماء والحكماء والخواص والملوك والعجائب بما لم يخصص الله به بلدًا غيرها، ولا أرضا سواها».
وخير دليل على ذلك ما ذكره الله عز وجل فى كتابه فى كثير من الآيات، منها التى ذكر اسم مصر مصرحًا بها، ومنها ما ذكر فيه اسم مصر بالمعنى والإشارة:
فمما صرح به القرآن الكريم بذكر مصر قول الله تعالى: «وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً» «يونس: 87».
وأما ما أشار الله تعالى إليه بالمعنى قوله تعالى «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ» «المؤمنون: 50»، قال بعض المفسرين: هى مصر، وقال بعض علماء مصر: هى البهنسا، وقبط مصر مجمعون على أن المسيح عيسى بن مريم وأمه عليهما السلام كانا بالبهنسا وانتقلا عنها إلى القدس فقد وردت أحاديث شريفة عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تبين فضل أهل مصر عامة، وفضل جنودها وحراسها بخاصة»، فقد روى الحافظ ابن عساكر عن عمر، رضى الله عنه، عن النبى، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ستفتح عليكم بعدى مصر فاستوصوا بقبطها خيرا، فإن لكم منهم صهرا وذمة.
وروى مسلم فى صحيحه عن أبى ذر، عن النبى، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرا، فإن لهم ذمة ورحما.
فأما الرحم، فإن هاجر أم إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام من القبط من قرية نحو الفرما يقال لها: أم العرب، وأما الذمة: فإن النبى، صلى الله عليه وسلم، تسرّى من القبط مارية أم إبراهيم ابن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهى من قرية نحو الصعيد، يقال لها حفن من كورة أنصنا. فالعرب والمسلمون كافة لهم نسب بمصر من جهة أمهم مارية أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن أزواج النبى صلى الله عليه وسلم، أمهات المؤمنين، والقبط أخوالهم. وصارت العرب كافة من مصر، بأمهم هاجر؛ لأنها أم إسماعيل، صلى الله عليه وسلم، وهو أبو العرب.
اعتناء الله تعالى بذكر مصر فى كتابه الكريم، وعلى لسان رسوله، صلى الله عليه وسلم، يدل دلالة واضحة أن مصرَ لها مكانةٌ وفضلٌ كبير عند الله تعالى، ويدل أيضًا على أنها محفوظة مُصانة من الفتن بأمر الله تعالى، لأنَّ حراسها وجنودها هم خير أجناد الأرض، وهم فى رباط متين إلى يوم القيامة بأمر الله تبارك وتعالى، وإن خير أجناد الأرض كلمة تشمل شعب مصر وجيشها الأبى وشرطتها الباسلة، فكلنا جنود لهذا الوطن نروى أرضه بدمائنا، ونفدى ثراه بأرواحنا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة