عفاف عبد المعطى تكتب: صالح علمانى المترجم بدرجة مقاتل

الخميس، 05 ديسمبر 2019 04:51 م
عفاف عبد المعطى تكتب: صالح علمانى المترجم بدرجة مقاتل عفاف عبد المعطى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تأبى سنة 2019 على المرور دون أن تفجع الثقافة العربية برحيل قامة وقيمة إنسانية وثقافية وأدبية كبير هو الصديق الكبير صالح علمانى . لقرابة نصف قرن ظل علمانى يطلع القارئ العربى ويزيد معارفه عن آداب أمريكا اللاتينية التى اقترنت ترجمات كُتَّابها على اختلاف مشاربهم باسمه ، حيث وصلت ترجماته إلى ما يقرب من مائة نص . 
 
لم يكن علمانى محبا للواقعية السحرية أو مترجما عاديا لنص من النصوص ولا عارفا ومتقنا للغة الاسبانية لكنه كان يمتلك لسانا حساسا مزدوجا للغتين غير متقاربتين هما العربية، التى كان يجيد قواعدها وصياغاتها وكذلك الإسبانية التى تحمل من الصعوبة التى تجعل من يتقنها لابد أن يخلص لها إخلاصا تاما .
 
تقع موهبة الكبير صالح علمانى فى ترجمة الجنس الأدبى كله من  الرواية الى السيرة الذاتية الى الملاحم الى الشعر ففى رواية " ابنة الحظ " التى عرفتنا على الكاتبة إيزابيل اللندى نجد الشخصية القارة فى النص "خواكين موربيتا" تلك الشخصية الاسطورية التي كرس لها بابلو نيرودا مسرحيته الشعرية الوحيدة "تألق خواكين موربيتا ثم مصرعه"، وفى كتابات جابريل جارسيا ماركيز صاحب جائزة نوبل 1982 وجد علمانى ملاذا آمنا فترجم له ببراعة سيرته الذاتية "عشت لأروى" التى حكى فيها ماركيز صادقا عن حياته بتفاصيلها دون خجل أو مورابة القارئ وجد فى ترجمة صالح علمانى لغة جميلة وصياغات ابداعية لماركيز منها “نصف الحكايات التي بدأت بها تكويني، سمعتها من أمي.
 
وهي لم تسمع مطلقاً أي كلام عن الخطاب الأدبي، ولا عن تقنيات السرد، ولا عن أي شيء من هذا. لكنها تعرف كيف تُهيّئ ضربة مؤثرة، وكيف تُخبئ ورقة آس في كَمِّهَا خيراً من الحواة الذين يخرجون مناديل وأرانب من القبعة”  ” كانت حكاياتي في معظمها أحداثا بسيطة من الحياة اليومية، أجعلها أكثر جاذبيه بتفاصيل متخيلة ‏كي يُصغي إلي الكبار، وكانت أفضل مصادر إلهامي، هي الأحاديث التي يتبادلها الكبار أمامي، ‏لأنهم يَظنون أنني لا أفهمها، فيشفرونها عمداً كي لا أفهمهما، لكن الأمر كان خلاف ذلك، كنت ‏امتصُّها مثل إسفنجة، ثم أفككها إلى أجزاء، واقلبها لكي أخفي الأصل، وعندما أرويها للأشخاص ‏أنفسهم الذين رووها بينهم، تتملكهم الحيرة للتوافق الغريب بين ما أقوله وما يفكرون فيه” ذلك قدر من لغة صالح علمانى وصياغاته الشفيفة التى تحبب للقارىء قراءة النص المترجم مرات عدّة . 
 
وفى رواية مائة عام من العزلة - رواية ماركيز الأشهر- التى تعتبر من أهم الأعمال الأسبانية - الأمريكية خاصة، ومن أهم الأعمال الأدبية العالمية عموما، نجد قصة عائلة بوينديا على مدى ستة أجيال التي تعيش في قرية خيالية يتفنن صالح علمانى فى صياغة لغة الترجمة، حيث يسجل ماركيز قصة حياة عائلة "بوينديا" في قرية ماكوندو على الساحل الكاريبي، بدءاً من قدوم الجد الأكبر"خوزيه أركاديو بوينديا" والجدة الكبرى "أورسولا" و "بيلار تيريزا" التي تقرأ مستقبل الناس من خلال ورق اللعب، ومجموعة متنوعة من المهاجرين. ثم تكوين مجتمع ماكوندو الغريب الذي يتسم كل شيء فيه بالعزلة النسبية. فلغة الترجمة تُظهر كل فرد ومكان وقد طُبِعَ على شخصيته سمات خاصة تجعل تفرده حالة مستعصية، ثم يأتي إلى القرية الجديدة الغجر بألعابهم السحرية التي لا تنتهي، فينضاف إلى القرية وأهلها شكل آخر من أشكال الخرافة، ويأتي مع الغجر الشخصية الغريبة "ملكياديس" والذي يفعل أشياء غريبة ويرحل مخلفا وراءه كنزا غريبا بعض الشيء، وهو مجموعة من الأوراق التي تسجل بدقة تاريخ القرية وكل سكانها من لحظة وجودها وحتى لحظة فناء القرية وأهلها، ولكن هذه الأوراق لا تقرأ إلا بعد مرور مائة عام على تحوّل القرية إلى مجموعة من الأبناء والأحفاد مصنفين لنوعين ؛ الأول يمتلك صفات جسدية خارقة للعادة وقدرة جنسية فائقة ، والثانى يحمل صفات العزلة والتمرد المطلوبة . بذلك كانت أحداث الرواية الخيالية متقاطعة مع تاريخ كولومبيا و إنفصالها عن أسبانيا وإعلان استقلالها و حربها الأهلية التي إندلعت في عام 1885 قبل أن تنتهي بتوقيع معاهدة نيرلانديا سنة 1902 بواسطة زعيم الثوار الكابتن رافائيل يريبي.
 
لم يكتف علمانى بتعريف القارئ العربى بجابريل جارثيا ماركيز ، أو حتى بترجمة الرواية كنوع أدبى وحيد بل امتد ابداع علمانى فى الترجمة الى فنوان أدبية أخرى ففى ترجمته لملحمة الديكاميرون أو " حديقة الملذات الدنيوية النص الكامل في العربية تُظهر لغة الترجمة التى برع فيها  علمانى تجاوز الكاتب الايطالى جيوفاني بوكاشيو 1313-1375 عصره، ليكشف عن الوجوه الخفية في الحياة في كتابه السحري المهيب ، فتظهر الديكاميرون تحفة التراث الإيطالي والإنساني، الكرنفال المترف بالحب والمتعة والجمال، صندوق الحكايات السرية والبهجة واللوعة والغواية والامتاع والعشق والمجون والمكر والخديعة والإغراء والسخرية والتهكم والمؤانسة والهتك والشعوذة والتلبس والوله والحرية والاعتراف والتصابي والتنكر. كل هذا وغيره في قصص يومية مبهرة تحدث في الطريق أو وراء الأبواب المغلقة أو في الهواء الطلق أو في الغابة السحرية، بعيداً عن محاكم التفتيش والتزمت تنفلت الرغبات الطبيعية الحية العطشى وتتسامى في نزعاتها الحرة لترسم لوحة متحركة مدهشة قد تصدم الخائفين من الأشباح أو من أنفسهم، أو من الحقيقة ، وهو ما يذكرنا بـمتاهة السرد فى " ألف ليلة وليلة ".
 
تعددت أيضا ترجمات صالح علمانى لكاتب بيرو "برجاس يوسا" ففى روايته " قصة مايتا" التى تمثل توجهاً جديداً في أعمال يوسا، نراه كشخصية تشارك في كتابة الرواية التي نقرئها وتطور مسارها، فيتشكل قدرا من بنية الرواية، يكشف لنا في النهاية أن الوقائع الحقيقة مختلفة تماماً، وأشد فقراً بكثير من التخييل الروائي، مؤكداً بذلك مقولة أنه يمكن للرواية أن تكون أكثر غنى وإقناعاً من التاريخ.  ولعل الأصول الفلسطينية التى ينتمى اليها الكبير صالح علمانى هى التى جعلته يتفنن فى ترجمة مثل تلك الأعمال ففي بلاد منكوبة تتعرض لغزو خارجي، وتتردى في أوضاع اجتماعية واقتصادية بائسة، وتطغى عليها ظلمة المجهول ، يسعى الروائي برجاس يوسا - من خلال شهادات متعددة - إلى إعادة بناء قصة مناضل ثوري يدعى اليخاندرو مايتا، بطل محاولة ثورية محبطة في العام ١٩٥٨ ، وسجين بعد ذلك عدة مرات في ظروف ملتبسة. وفي نهاية ذلك التقصي الطويل، تأتي المواجهة مع الواقع لتضع هذه القصة رؤية مريرة لحالات التطرف الثوري والحنين. 
 
وفى ترجمات علمانى ظهر كتاب " صنعة الشعر " حيث يقول ماريو بارجاس يوسا صاحب الكتاب إن بورخيس هو الذي فتح بوابات أوربا والعالم أمام الرواية الأمريكية اللاتينية في الستينيات، وهنا في ست محاضرات يحكي بورخيس عن الشعر الجديد والقديم من زوايا خاصة، وفي لغات متعددة، تلعب الذاكرة الشخصية فيها دوراً إبداعياً في الأفكار والتشريح المبهر للحالة التى يكتب بها الشاعر أجمل الأشعار والقارئ عندما يقرأ ترجمة علمانى يشعر كأنه يقرأ كتاباً مؤلفا مصاغا بلغة عربية سليمة.
 
ثم ترجم علمانى كتاب "كرة القدم بين الشمس والظل" حيث يستعرض المؤلف "ادواردو غاليانو" ذاكرة وواقع كرة القدم من خلال إلقاء الضوء على تاريخ هذه الرياضة وأهم العناصر المؤثرة بها التي تدور حولها مثل حارس المرمى اللاعب، المشجع، المتعصب، الهدف، الحكم، المدير الفني، المسرح، وأهم مباريات كأس العالم منذ سنة 1938 وحتى مونديال 1994 محاولاً من خلال سرده التحدث عن أهم الأهداف التي تم تسجيلها من هذه المباريات وعلى أهم اللاعبين الذين برزوا في تلك الحقبة من الزمن ولقبوا بأسياد الكرة أمثال: بيليه، مارادونا، يلاتيني، غوليت، فيلتون، تشارلتون .
 
أن كرة القدم كما يقول غاليانو – حسب ترجمة صالح علمانى الرائعة هي مرآة للعالم، وهي تقدم ألف حكاية وحكاية مهمة فيها المجد والاستقلال والحب والبؤس، يحاول المؤلف سردها في هذه الصفحات. 
 
وأخيرا يجب أن ينظر القارئ إلى تعابير صالح علمانى وصياغته الفذة فى ترجمة رواية " الحب فى زمن الكوليرا " ومنها " ذاكرة القلب تمحو كل الذكريات السيئة، وتضخم الذكريات الطيبة، وإننا بفضل هذه الخدعة نتمكن من تحمل الماضى، وكذلك " علمته الشيء الوحيد الذي عليه ان يتعلمه عن الحب ,و هو ان احدا لا يستطيع تعليم الآخرين الحياة"، وهذا غيض من فيض ثقافة علمانى وترجماته التى وسعتنا جميعا وستسع أجيال بعد أجيال مِن مَن يحبون اقتناء الكتاب والاستزادة من ترجمات رائدة صاغها صالح علمانى بلغة فذة تحمل متعة لا متناهية لقارئها .






مشاركة



الموضوعات المتعلقة




الرجوع الى أعلى الصفحة