الانقسام الذى يضرب حلف الناتو، فى ظل التعارض فى المواقف بين الولايات المتحدة، وحلفائها فى أوروبا الغربية، يمثل جزءا من الأزمة التى تعانيها واشنطن، منذ نهاية الحرب الباردة، والتى تجلت بوادرها بوضوح فى انهيار الاتحاد السوفيتى، وغياب الصراع الذى هيمن على النظام الدولى لأكثر من نصف قرن من الزمان، والذى فتح الباب أمام دور قيادى أمريكى للمعسكر الغربى، وبالتالى فإن عدم وجود صراع يعنى غياب القيادة الأمريكية للعالم.
ولعل النظرية التى خرج بها السياسى الأمريكى الشهير صموئيل هنتنجتون، والمعروفة باسم "صراع الحضارات"، بمثابة المخرج الذى قدمته واشنطن لنفسها من الأزمة، حيث إنه رأى أن الصراع بين الحضارة الإسلامية، والحضارات الغربية، بديلا للصراع بين الشيوعية السوفيتية، والرأسمالية الغربية، وهو ما يترتب عليه بقاء واشنطن فى الصدارة الدولية، عبر استنساخ صراع جديد، يمكنها من خلاله للولايات المتحدة القيام بدور، عبر قيادة معسكر الغرب من جديد، ولكن من منطلق حضارى.
رؤية صراع الحضارات كانت بمثابة الفرصة التى تلقفتها إدارة الرئيس الأمريكى الأسبق جورج بوش، بعد أحداث 11 سبتمبر، ليبدأ خلالها حربه "المقدسة" على الإرهاب، والذى كان من الطبيعى أن تربطه الإدارة الأمريكية بالدين الإسلامى، استلهما للنظرية الشهيرة، والتى سطرها هنتنجتون فى مقال بمجلة "فورين أفيرز" الأمريكية، قبلما يحولها إلى كتاب يحمل نفس الاسم بعد ذلك، لتبدأ المقامرات الأمريكية فى العراق وأفغانستان، ضد ميليشيات مسلحة، كانت داعمة لواشنطن يوما ما إبان حربها الباردة مع الاتحاد السوفيتى، وهو ما يبدو بوضوح فى نموذج "القاعدة" بقيادة أسامة بن لادن، والذى حارب ضد الاحتلال السوفيتى لخدمة الأهداف الأمريكية.
إلا أن خسائر الصراع الذى خلقه السياسى الأمريكى كانت فادحة فى ظل عدم قدرة الجيوش النظامية على مجاراة الميليشيات المسلحة، مما كلف خزائن واشنطن ملايين الدولارات، بالإضافة إلى خسارة آلاف الأرواح فى صفوف الجيش الأمريكى، ربما دفعت إدارة ترامب للبحث عن صراعات جديدة، تستطيع من خلالها الإدارة الأمريكية الحفاظ على دورها القيادى لعقود قادمة.
وهنا تكمن معضلة أمريكا، والتى تنبثق منها أزمة الناتو الراهنة، وهى حالة غياب الصراع، فروسيا ليست هى الاتحاد السوفيتى الذى خلق الحلف فى الأساس لمواجهته، بينما الغرب الأوروبى لم يعد متحالفا كما كان عليه الحال فى السنوات الماضية، وهو الأمر الذى لا يمكننا إرجاعه بالكامل لسياسات الإدارة الأمريكية الحالية، وإنما يرجع فى جزء كبير منه إلى طموحات أوروبا للصعود على قمة النظام الدولى، ولو على استحياء، لمزاحمة النفوذ الأمريكى.
يبدو أن الرئيس ترامب وضع على عاتقه إحياء الصراع القديم، عبر إيجاد خصوم دوليين جدد، يمكنه من خلالهم إثارة الاستنفار الغربى، حتى يبقى فى دور القيادة، وهو ما يبدو فى محاولاته لإحياء المخاوف الغربية القديمة من روسيا، عبر الانسحاب من معاهدة الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى، وهو ما يثير شكوكا حول إمكانية قيام موسكو بنشر صواريخ فى مواجهة أوروبا، أو سعيه لمحاصرتها عبر توجيه قوات الناتو نحو شرق أوروبا، بهدف استفزاز الحكومة الروسية، مما يضع دول القارة العجوز تحت وطأة التهديد، وبالتالى لن يجدوا بديلا سوى العودة من جديد للدوران فى فلك واشنطن بعيدا عن أى دور مستقل تطمح إليه القارة العجوز فى المستقبل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة