بعدما انتهيت من قراءة كتاب مذكرات كاريوكا لصالح مرسى، التى عثر عليها الكاتب محمد توفيق وجمعها بمشقة من الأعداد المتناثرة لمجلة الكواكب وأعاد نشرها فى كتاب صدر، مؤخرا، عن دار نهضة مصر، تأكد لى ما كنت أحسه تجاه الفنانة الراحلة تحية كاريوكا بأنها شخصية «صريحة» وأن هذه السمة هى جوهر حياتها، ويمكن تفسير كل تصرفاتها الاجتماعية والسياسية من هذا المنطلق.
عانت كاريوكا كثيرا منذ طفولتها فى الإسماعيلية وحتى مجيئها إلى شارع عماد الدين فى قلب القاهرة ومقابلتها لسعاد محاسن التى ساعدتها وبديعة مصابنى التى علمتها، وعندما وصلت إلى هذا الجزء من الكتاب سقطت فى غرام بديعة مصابنى الشامية التى جاءت إلى مصر متحدية ظروفها التى ظلت تعاندها طوال الوقت ومؤمنة بنفسها وبفنها إلى النهاية.
تعلمت تحية كاريوكا من بديعة مصابنى الكثير، ويبدو أن فنانى مصر فى هذه الفترة تعلموا من بديعة الكثير أيضا، فقد كانت «مكة الليل» كما يطلق عليها تؤمن بالضبط والربط، وأن الفنان الذى لا يحترم نفسه لا يحترمه الآخرون.
بديعة مصابنى ابنة الظروف الصعبة والهجرات المتكررة بحثا عن الرزق من سوريا إلى البرازيل إلى القاهرة إلى لبنان، وفى هذا الطريق الطويل حملت فى داخلها هموما لا يحملها الرجال الأقوياء، يكفى أن تكون أمها هى عدوتها الساعية دائما لتدميرها والعاملة باجتهاد للإساءة إليها.
تعرضت لنكبات كثيرة منذ كانت فى السابعة من عمرها، وصارت حديث المدينة، بسبب الاعتداء عليها طفلة، ثم صارت حديث المدن بعد ذلك من أجل ما تقدمه من فن، عاشت الغنى والفقر، أحبت وكرهت، كسبت وخسرت، لكنها ظلت طاقة غريبة عن التفسير أحس بها كل من تعامل معها فى تلك الفترة المبكرة من تاريخ مصر الحديث.
استطاعت بديعة مصابنى بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة أن تصنع اسمها الكبير الذى يظل على مدى ثلاثين عاما على الأقل يملأ سماء مصر موسيقى ورقصا وقدرة على اكتشاف النجوم، وبعد ذلك ونظرا لتراكم الديون عليها غادرت مرة أخرى إلى لبنان لتبدأ مرحلة جديدة فى مجال مختلف.
ظلت تحية كاريوكا مخلصة طوال حياتها لأيام بديعة مصابنى ولدروسها الحياتية والفنية التى تعلمتها منها، وظلت بديعة مصابنى رمزا فنيا خالدا على مصر الجميلة فى زمن عماد الدين.