تميزت فترة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بعدة سمات، كان أهمها المد العروبى الذى كانت مصر فى القلب منه، وبلوغ القوة الناعمة المصرية ذروتها، وأيضا العلاقات القوية الفاعلة بكتلتين: الأولى تكتل دول عدم الانحياز، والثانية القارة الأفريقية، واعتبرت «مصر عبدالناصر» أن العلاقة بدول القارة الأفريقية تمثل عمقا استراتيجيا، لا يجوز التهاون بشأنه، ومن هذا المنطلق لعبت مصر دورا كبيرا فى تحرر واستقلال الكثير من الدول الأفريقية، ناهيك عن تطلع تلك الدول إلى ثورة 23 يوليو 1952 باعتبارها رمزا يحتذى به فى التحرر الوطنى من الاستعمار الذى احتل القارة، واستنزف مواردها عبر عقود طويلة.
فى عصر مبارك اتجهت البوصلة إلى الغرب، وتعلقت بأمريكا، وانصرفت تماما أو كادت أن تنصرف عن دول ما كانت تعرف بالكتلة الشرقية سابقا، وأيضا عن أفريقيا، حدث ذلك فى الوقت الذى كانت فيه إسرائيل تضع كل يوم قدما جديدة لها فى كل الدول الأفريقية العطشى إلى التعليم والتكنولوجيا والاستثمارات، والتنمية، وبدلا من أن نحافظ على هذا الفناء الحيوى والاستراتيجى لمصر، تركناه لعدة عقود مرتعا خصبا لآخرين لكى يلعبوا ويستثمروا فيه كيفما شاءوا، فدخلت إسرائيل بقوتها الناعمة، وبشركاتها، وراحت تقدم الخدمات والعون للأفارقة، فى الوقت الذى انكفأ فيه الصديق المصرى على ذاته، وأدار ظهره للصديق الأفريقى، نفس التوجه حدث مع الصين التى ولت وجهها قبل القارة السمراء البكر، وراحت تدرس وتقدم العون.
حدث تغير جوهرى فى علاقة مصر بأفريقيا، وعادت الأمور إلى نصابها منذ أن تولى الرئيس عبدالفتاح السيسى مقاليد الحكم بإرادة شعبية، ورغم أن العلاقة بدأت ملتبسة، وبمقاطعة أفريقية لما حدث فى مصر، لعدم وضوح الرؤية، إلا أن الرئيس السيسى وبصبر وبذكاء يحسد عليهما بدل الصورة، وكشف الغيوم، وانتقل بالعلاقة من علاقة مضطربة إلى علاقة نموذجية سواء على المستوى الثنائى بقادة الدول الأفريقية، أو على مستوى القارة ككل، وانتقل من هذه المرحلة سريعا وراح يصلح ما تضرر من علاقات مصر مع الأشقاء الأفارقة عبر سنوات الهجر لأفريقيا، وأصبح هناك توجه أساسى، واستراتيجى تتحرك خلاله الدبلوماسية المصرية المصرية بوضوح يتعلق بعودة مصرية قوية إلى أفريقيا، بما يتناسب مع حجم وأهمية تاريخها، وبالتطلعات والآمال المعقودة علينا من الأشقاء.. هذا التوجه كان عنوانه: مصر دولة أفريقية المنشأ والهوية، وأنها تعتز بهذا الانتماء، وفى منتدى أفريقيا الذى عقد فى شرم الشيخ نهاية العام الماضى، كشف الرئيس السيسى عن الرؤية التى تحكم علاقة مصر بأشقائها خلال المرحلة المقبلة التى تقود خلالها القارة، وقال إن مصر سوف تبنى على ما تحقق، مع تفعيل للمشروعات التى تحقق التنمية المستدامة، ودفع عجلة التنمية لتشمل تطوير الطرق والمطارات والموانئ والمدن وشبكات الكهرباء، والطاقة والمياه، إضافة إلى ما يمكن تقديمه من احتياجات فى مجال ثورة المعلومات، ولم يغب عن «مصر السيسى» الشباب الأفرقى الذى يرى فى مصر ما لا يراه فى بلاده، ربما ما يتعلق بتجربة النهضة التى تحدث فى كل شبر فى مصر، لذلك كان ملتقى الشباب العربى الأفريقى الذى ستستضيفه مصر فى 18 مارس المقبل فى أسوان تحت رعاية الرئيس السيسى.. ولا يخفى على أحد أن ذلك يعد أول تطبيقات قرار الرئيس بجعل أسوان عاصمة للشباب الأفريقى ضمن توصيات منتدى شباب العالم.. هنا تتواصل مصر مع «كريمة» العقول فى أفريقيا ممثلة فى هذا الشباب الواعد الذى يريد أن يغير واقعه، والذى سيقود بلاده قريبا، وفى هذا الإطار كان نجاح التحرك المصرى الواعى بمد اليد لهذا الشباب، واحتضانه، ونقل التجربة المصرية الناجحة إلى بلاده.. وفى هذا الإطار كان نجاح وسرعة تحرك الحكومة المصرية نحو استضافة بطولة الأمم الأفريقية على أرضها بعد أن نالت هذا الشرف باكتساح فى مواجهة جنوب أفريقيا.. ولأول مرة أرى تحركا مسبقا للحكومة المصرية فيما يتعلق بالاستعداد المسبق لقيادة مصر للقارة الأفريقية، ورأيت وتابعت عشرات الاجتماعات التى يترأسها الرئيس السيسى أو رئيس الوزراء وبحضور، ليس وزير الخارجية، أو حتى الدفاع، أو الهجرة، أو حتى الاستثمار والاقتصاد، بل بحضور وزراء الثقافة، والتربية والتعليم والصحة، فى إشارة واضحة إلى أن مصر عائدة، وبقوة إلى بيتها الأفريقى الذى ساهمت فى تأسيسه، والتى مازالت مؤهلة لقيادته فى المرحلة المقبلة، ليس جبرا، ولا من باب فرض السيطرة، ولكن من معطيات التاريخ، ومن صدق التوجه المصرى تجاه أفريقيا الذى «كان» والـ«كائن حاليا» والذى «سيكون» بإذن الله.. إذا كانت مصر قد نجحت وباقتدار فى أن تدير الملف الشائك جدا مع إثيوبيا، والمتعلق بإنشاء سد النهضة، فهل تفشل فى إدارة بقية الملفات الأسهل، والتى لدينا فيها أرضية قوية وصلبة؟!
قوة علاقة مصر بأفريقيا، لو تعلمون، مهمة للغاية، ويمكن أن تكون مدخلا وأساسا نرتكز عليه لإحداث نقلة نوعية لنا وللأشقاء الأفارقة، يكفى أن أن أقول لكم مثلا إن حجم أعمال شركة واحدة مثل المقاولون العرب فى أفريقيا وحدها يقدر بالمليارات، وإن مهندسيها يمثلون سفراء لمصر فى كل بلد أفريقى يقيمون فيه كبارى، أو يشيدون فيه أحد المشروعات، نفس هذا الاستقبال الرائع وربما أكثر يحدث لمبعوثى الأزهر الشريف عندما يذهبون إلى إحدى الدول الأفريقية التى بها جاليات مسلمة.. قس على ذلك فى المجال الطبى، والتعليمى، فالطالب الأفريقى الذى يتعلم فى إحدى الجامعات المصرية هو سفيرك فى بلده.
اليوم تتسلم مصر ولمدة عام رئاسة الاتحاد الأفريقى، ثم يتسلم الرئيس عبدالفتاح السيسى رئاسة أعمال الدورة الثانية والثلاثين لقمة رؤساء الدول والحكومات الأفارقة بالاتحاد.. وإذا كانت «مصر عبدالناصر» قد قادت القارة السمراء إلى التحرر من الاستعمار، فإن «مصر السيسى» تستهدف التحرر الاقتصادى الذى لم يتحقق بعد لأفريقيا، وأن تكون مصر لاعبا رئيسيا فى تنمية هذه القارة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة