أصبحت نغمة مزعجة، تلك التى يرتفع به صوت كورال المصالح، كلما سقط أحدهم فى أزمة، أو دخل فى معركة شخصية أو فشل فى نيل ما تمنى من مكاسب، سواء كان إعلاميا أو سياسيا أو حتى عابر سبيل على صفحات الفيس بوك، يصرخ للتغطية على معركته وخسائرة بكلمات يعاير فيها الوطن وناس الوطن بما فعله وقدمه.
بعض القضايا لابد أن يكون التعامل معها بوضوح يشبه تجلى الشمس فى ظهيرة منتصف أغسطس، لذا أقول والقول هنا يبتغى وجه الله وحده: الوطن أكبر من أن يداينه أحد، أو يعايره أحد، أو يتفضل عليه أحد لا بقول أو بفعل أو بموقف أو حتى بدم، كل هذه واجبات مقدسة وقرابين فى محبته.
لا تسقط فى الفخ الذى ابتلع مبارك ورموز حكمه حينما أجابوا عن احتجاجات الشعب فى 2011 بكلمات ترتدى ثوب المعايرة، حاربنا من أجل هذا الوطن، وخدمنا هذا الوطن، وكأنهم يطلبون مقابل ذلك صمتا على فساد فى إدارة شؤون مصر أوصلها إلى لحظة الانفجار فى 25 يناير 2011.
ولا تغرق فى المستنقع الذى غرق فيه كثير ممن لقبوا أنفسهم بشباب الثورة، حينما ارتدوا ثوب المعايرة، وبدأوا فى تلاوة تعبيرات المساومة، «حق الشباب فين»، «شيلنا أرواحنا على إيدينا فى الميادين»، وكأنهم خرجوا ابتغاء مصلحة شخصية أو إعلاء لكلمة تيار لا من أجل مصلحة الوطن وابتغاءً للحرية.
ولا تفعل مثلما يفعل الإخوان الذين يعزفون لحن المعايرة طوال السنوات الماضية بأنهم حاربوا وسجنوا من أجل مصر والإسلام، وكأن حربهم لم يكن أساسها الإيمان كما زعموا، بل كان هدفها السلطة، فإن ضاعت السلطة أطلت لعبة المعايرة.
ولا تغرنك لحظة الزهو مثلما حدث مع أهل 30 يونيو من إعلاميين وسياسين اجتمعوا على كلمة سواء، وإيمان بضرورة إنقاذ الوطن من براثن جماعة التطرف، ثم انتفضوا مثل رماة الأسهم فى غزوة أحد يطلبون نصيبهم فى الغنائم، منهم من يطلب الأمان التام حتى وإن أخطأ، ومنهم من يطلب درجة فوق البشر أجمعين لا يحاسب ولا يخسر وإلا أشهر لنا سيف المعايرة، ليخبرنا بأنه وقف ضد الإخوان، وكأن وقفته كانت هدفها مصلحة وبحثا عن مكسب لا عن إيمان وعقيدة بإنقاذ الوطن.
تلك نغمة مفزعة يرددها أهل السياسة والإعلام وبعض الباحثين عن الشهرة، وقت الأزمات ووقت الحصاد، تحل المكاسب فيسألونك عن حصتهم مذكرين الوطن كله بأنهم وقفوا ضد الإخوان، وحينما تتأزم المواقف يطلبون كارت الغفران الدائم تحت مظلة المعايرة بأنهم كانوا يوما مستهدفين من الإخوان بسبب موقفهم وكأن الوطن كله لم يكن مستهدفا، وكأن موقفهم كان طمعا فى مكسب، وليس ناتج إيمان.
الوطن لا يساوم، ولا يعاير، ولا يتحول إلى رقم فى معادلة حسابية، الوطن يحصل على خدماتك أيا كان موقعك، كما تحصل الآلهة على قرابينها فى مقابل الرضا، نعبد الإله دون انتظار المقابل، ونخدم الوطن دون انتظار المكسب.
يمكن أن تتدلل على الجميع، وأن تذكر هذا بجميل صنيعك وتطلب منه الرد، وتنبه ذاك إلى عظيم فضلك وتطلب منه الاعتراف بذلك، إلا مع الوطن، أن تنفق من مالك وجهدك وروحك فى سبيل إيمانك به، ومن أجل رفعته ومصلحته هو قبل كل شىء وأى شىء.
لم نسمع صوتا لمصاب من أبطال حرب أكتوبر أو أبطال ملحمة ماجهة الإرهاب فى سيناء، وهو يطلب من مصر مقابل ذراع قد فقده أو قدم قد بترت، ولم يخرج واحد من هؤلاء الأبطال ليعاير مصر بأنه حارب من أجلها ولم يحصل على المقابل، مثلهم فى ذلك مثل أهالى الشهداء لم يعايرنا أحدهم بأنه قدم أحباءه فداء للوطن، بل نسمع دوما صوت الأم الثكلى يخرج من قلبها صارخا، وهو يخبرنا بأنها ستقدم المزيد من أولادها فداءً للوطن.
ولم نقرأ فى الأوراق القديمة سطرا مكتوبا لرموز مصر العظماء بأنهم قد ندموا على موقف اتخذوه لصالح الوطن، لأن الوطن قد نساهم، أو أغفلهم أو لأنهم لم يحصلوا على مقابل ذلك، بل ملخص ما كتبوه أنهم اتخذوا ما اتخذوا من مواقف وقدموا ما قدموا من تضحيات إيمانا منهم بحق الوطن عليهم، وإيمانا منهم بكل خطوة تحركوها.
لكل من اجتهد، ولكل من أعطى قطعة من وقته أو ماله أو روحه أو دمه فى سبيل إنقاذ هذا الوطن فى أى مرحلة من مراحل تاريخه، نقول شكرا، وشكرا وحدها لا تكفى، أما من بحث عن مقابل، ومن طلب مكسبا، أو تخيل أن تضحيته كارت غفران ينقذه إن أخطأ فى حق الناس أو الوطن، أو ظن أن موقفه فاتورة سيقوم بتحصيلها حينما يريد، فلا جواب على ظنونه سوى عبارة واحدة مقدسة تقول، الوطن لا يداينه أحد ولا يعايره أحد ولا يسدد فواتير لأحد، الوطن لا يشكر ولا يتذكر إلا المخلصون الذين يفتدونه إيمانا لا طمعا.