تحل بعد غد الجمعة الذكرى الواحدة والستين للوحدة المصرية - السورية (1958) والتى تجسدت فى دولة واحدة تحمل اسم "الجمهورية العربية المتحدة"، حيث شكلت حدثا جليلا فى الثقافة القومية، كما تعيد للأذهان أهمية تعزيز أواصر "العروبة الثقافية" لمواجهة تحديات خطيرة طالت الهوية العربية ذاتها.
تأتى هذه الذكرى المجيدة وسط دعوات لعقد قمة ثقافية عربية بعد أن بلغ الأمر بالبعض حد الدعوة "لإعادة تعريف الذات العربية" كما أمست مفاهيم قومية استقرت من قبل طويلا على المحك الآن، بينما تتفق غالبية المثقفين القوميين على أن تطوير العلاقات الثقافية بين أبناء الأمة العربية الواحدة يشكل مدخلا مناسبا لتعزيز أواصر العروبة الثقافية.
ومع التصدعات فى بلدان عربية تعانى من الاقتتال الداخلى وتدخلات الخارج التقى سدنة الجماعات التكفيرية الظلامية مع نفر من مدعى الحداثة فى العالم العربى فى مفارقة تاريخية قد تدعو للسخرية وهم يحاولون معا تصوير القومية العربية أو ثقافة الأمة الواحدة باعتبارها مجرد "خرافة"!.
وقد يكون أول رد فعل مطلوب على تلك التحديات غير المسبوقة التمسك بالهوية العربية فى مواجهة قوى إقليمية على التخوم تتربص بالعرب، وقوى دولية تحرض وتخطط وتتدخل من حين لآخر فى الشأن الداخلى لبلدان عربية كما يتجلى فى الحالة السورية.
وإذا كانت "بعض الأطراف من دول الجوار فى المنطقة تمارس أدوارا هدامة لإذكاء الصراعات المسلحة والحروب الأهلية وتقويض مؤسسات الدولة الوطنية" فإن العديد من المثقفين العرب يتفقون فى أطروحات وتعليقات عبر الصحف ووسائل الإعلام على أهمية الاهتمام بالبعد المعرفى حفاظا على الهوية العربية والتصدى للمؤثرات المناوئة لقيم الاصطفاف العربى.
ورأى أحد هؤلاء المثقفين فى مصر وهو الباحث والكاتب فى جريدة الأهرام نبيل عبد الفتاح أن "المجال الذى يمكن أن يساهم فى إعادة الحيوية والفاعلية للعلاقات العربية - العربية ولفكرة العروبة يتمثل فى تطوير العلاقات الثقافية العربية فى ظل عديد الممكنات المتاحة والتى تحتاج إلى تطوير".
كما رأى أن تعدد المراكز الثقافية العربية يعطى إمكانات واسعة للتنوع وإبراز الجهود الوطنية فى مجالات الإبداع والإنتاج الثقافى مؤكدا على أهمية استعادة أدوار المثقفين والمبدعين للقيام بأدوارهم فى مجال التغيير الاجتماعى واقترح دعوة جامعة الدول العربية "لمؤتمر لبعض المثقفين العرب للإعداد للقمة العربية الثقافية الأولى بصورة تمثل وتعكس المدارس الفكرية والفلسفية العربية".
ويقول مدير مكتبة الاسكندرية الدكتور مصطفى الفقى إن الدعوة لعقد قمة ثقافية عربية ترجع الى عام 2008 لافتا إلى أنه طرحها حينئذ فى اجتماع "لمؤسسة الفكر العربي" فى بيروت حيث رأى "أن جزءا كبيرا من مشكلاتنا على المستوى القومى يأتى من الأبعاد الثقافية لحياتنا المعاصرة خصوصا أننا نعيش فى عالم كل أطروحاته ذات طابع ثقافى".
ويضيف الدكتور الفقى أن هناك حاجة لعقد هذه القمة الثقافية العربية لجمع الكلمة "حول مفهوم شامل لمعنى المواطنة فى ظل منطق العروبة خلال السنوات الأخيرة" فيما أصبح العامل الثقافى يحظى بأهمية بارزة فى العلاقات الدولية المعاصرة.
وشدد الفقى على أهمية أن يدرك العرب "حجم الثروة الثقافية التى يمتلكونها والعمل على توظيفها من أجل مستقبل عربى أفضل، ويؤكد أن العامل الثقافى هو "عامل رئيسى فى مفهوم القومية" يعيد صاحب كتاب "تجديد الفكر القومي" للأذهان أن كتابه الذى صدر فى مطلع العقد الأخير من القرن الماضى "تضمن بوضوح رؤية حديثة لمعنى القومية ومفهوم الأمة" ويخرج بهما عن الإطار العاطفى التقليدى منوها بأهمية "دعم العامل الثقافى بشبكة مصالح مشتركة ومتوازنة".
وكان مصطفى الفقى قد أصدر أيضا كتابا بعنوان "العروبة المصرية" لفت فيه إلى أن "عروبة مصر ذات مذاق خاص يرتبط بعبقرية المكان والزمان والسكان" وقال إن "العروبة الثقافية متأصلة فى مصر" فيما أكد أن "القومية العربية تحديدا هى واحدة من أكثر الأطروحات ثراء وعمقا لأنها تعتمد على عامل ثقافى واسع ورحب".
وخلص الدكتور مصطفى الفقى إلى رؤية فحواها أن "القومية انتماء إنسانى يحكمه العامل الثقافى بالدرجة الأولى" مؤكدا أيضا على أهمية دعم هذا العامل بالمصالح والمشاريع المشتركة التى تعزز جوهر القومية وتشكل بديلا أفضل بكثير من الاكتفاء بالشعارات "حتى تصبح القومية مظلة حقيقية للتعايش المشترك بين أبناء الأمة الواحدة".
أما الدكتور مصطفى عبد الغنى الذى عرف بتبصراته الثقافية فى جريدة الأهرام فقد رأى أن التأثير السلبى على الهوية العربية يزداد مع ازدياد حدة الصراعات فى بعض الدول العربية مثل سوريا، فيما حذر السفير ووزير الخارجية المصرى الأسبق محمد العرابى من خطورة ظاهرة التحالفات بين قوى أجنبية على الأرض السورية ومحاولات استحداث كيانات عرقية أو طائفية على حساب الدولة الوطنية، مؤكدا فى الوقت ذاته على أن "الإرهاب العابر للحدود يعد أول الظواهر التى تهدد المنطقة العربية وتهدف لتقزيم الدولة الوطنية".
وتحل الذكرى العزيزة للوحدة المصرية - السورية فيما يشكل الموقف المصرى حيال الأوضاع فى سوريا أمثولة لثقافة الحق وانتصارا لقيم الخير وحرصا على حقن دماء كل السوريين ووحدة ترابهم الوطنى ويتطلع المثقفون مع جماهير شعبهم فى مصر ليوم قريب تنتهى فيه المحنة التى يعانى منها الشعب السورى الشقيق منذ نحو ثمانى سنوات وأن تقطع ذراع الإرهاب فى ربوع الشام وتدحر قوى الشر التى تغذى الاقتتال بين أبناء الوطن الواحد.
ولعل مرور 61 عاما على ذكرى الوحدة المصرية - السورية يستنفر المزيد من جهود الباحثين العرب فى التاريخ الثقافى والاجتماعى ناهيك عن حقل العلوم السياسية لتقديم المزيد من الدراسات الثقافية بشأن دولة الوحدة التى استمرت نحو ثلاث سنوات ودخلت بامتياز فى التراث القومى العربى وتاريخ الأفكار العروبية ووشائج العلاقات بين المثقفين فى مصر وسوريا كجزء عزيز من الروابط الجامعة بين المثقفين العرب.
ومثل هذه الدراسات الثقافية حول التجربة الوحدوية العربية بين مصر وسوريا لا تنصرف لأمواج الحنين للماضى بقدر ما هى مفيدة لاستخلاص نتائج من عبر التاريخ تساعد الأمة العربية فى مواجهة الواقع الراهن المشحون بالتحديات الخطيرة والأحداث الجسام فضلا عن بناء ما يمكن وصفه "بثقافة حداثية قومية قادرة على الاستجابة لمتطلبات الواقع المعاصر".
كما تحل هذه الذكرى وسط اهتمام كبير فى المنابر الثقافية ووسائل الإعلام بشأن تطورات إيجابية على صعيد محاربة تنظيم داعش الإرهابى الذى منى بالهزيمة فى الأرض السورية، غير أن هذا التفاؤل لم يحل دون تحذيرات لمعلقين بشأن إمكانية استعادة هذا التنظيم التكفيرى الدموى قدرته على شن هجمات داخل سوريا حال تخفيف الضغوط عليه.
وكانت كنوز ثقافية وتاريخية سورية قد تضررت جراء الممارسات الإجرامية لعناصر تنظيم داعش الإرهابى فيما لاحظ معلقون أن تصاعد هجمات الخارج لاقتلاع الخصوصية الحضارية وشطب الثقافة القومية قد تزامن مع تصاعد هجمة الإرهاب والقوى الظلامية العميلة لصنع حالة من "تآكل الذات العربية".
وإذ تتعدد الأطروحات القومية يبقى الرهان صائبا على بناء ثقافة عربية جديدة وتغيير الحقائق الاقتصادية والاجتماعية نحو الأفضل على قاعدة معرفية تتيح فهم حركة التاريخ وإمكانية توظيفها إيجابيا، ولعل ذلك هو "جوهر النضال الفكرى المطلوب من جانب المثقفين القوميين والمؤمنين بفكرة الأمة العربية الواحدة".
وفى ذكرى الحدث الوحدوى العربى المجيد تبقى قلوبنا وعقولنا ومشاعرنا كلها مع الأشقاء فى سوريا..ورغم المياه الكثيرة التى مرت وتمر تحت جسور الزمن فإن هذه الذكرى ستبقى شاهدة على إمكانية تحويل الحلم لدائرة الفعل القومى لصالح الإنسان العربى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة