صاحب "الثلاث عجلات"، الذى يتبختر ليل نهار فى شوارع مصر، وجد تربة خصبة ينمو ويترعرع فيها كيفما يشاء، فعلى مدار 14 سنة مضت أصبح فيها "التوك توك" يمثل "تاكسى الغلابة"، لكن الصورة ليست وردية - كما يظن البعض – جراء عدم تقنين أوضاعه، والذى أدى بالضرورة إلى كثرة استغلاله فى الحوادث والسرقات، إلى جانب انتشار سرقته؛ ليظل دائمًا هو حديث الساعة، وما بين "حَلال أزمات" و"صانعها"، وما بين "فاتح بيوت"، و"هادمها"، وبين تقنين للأوضاع، أو وضع حد له، ثار الجدل حوله، حين اكتشف خبراء الاقتصاد أنه أضاع على الدولة 11 مليار جنيه، فى ظل وجوده الذى يقدر بـ"مليون مركبة"، وذلك بحسب تصريح لوزير التنمية المحلية.
أصبح "التوك توك" حقيقة مؤلمة وواقعة مؤسفة فى حياة المصريين، بل وضرورة فى كثير من الأحيان، وبالتالى يصعب إلغاؤه؛ كما يطالب بذلك مجلس النواب وخبراء الاقتصاد، لأن هناك ملايين تعتمد عليه، سواء كوسيلة مواصلات، أو عمل للبعض، والمشكلة أنه أصبح وسيلة يستخدمها البعض فى ارتكاب جرائم، كما يتسبب فى كثير من الحوادث اليومية الواقعة فى قلب الشارع المصرى المشحون بالغضب؛ نتيجة عدم تنظيم استخدامه؛ حيث نجد عادة أطفالًا يتولون قيادته، كما أنه ليس هناك أى ضوابط أو فحوصات للعربة أو لقائدها من جانب إدارات المرور.
ظاهرة انتشار "التوك توك" ولدت مؤخرا فى المناطق العشوائية بكثافة فى القاهرة تحديدا، وفى عموم الجمهورية بشكل عام، وللأسف لا توجد إحصاءات رسمية منشورة، لكن هناك بعض التقديرات تقول إن مصر تستورد ما يقرب من مليون سيارة سنويا، وبغض النظر عن حقيقة الرقم فإن الأعداد الموجودة فى الشارع المصرى كبيرة، وفى حالة تزايد، وهذا يعنى أن العاملين عليه أعداد تقدر بالملايين، والمستفيدين بالركوب أكثر، ومما لا شك فيه أن هناك مناطق فى حاجة إليه؛ لصعوبة وجود نقل جماعى فيها، ولضيق الشوارع، أو عدم ملاءمتها بوجه عام، ولذلك يقدر البعض الضرائب التى يمكن أن تحصلها الدولة من تقنين وحسن إدارة استخدام "التوك توك" بالمليارات.
الحقيقة المرة أن خطورة تلك المركبة الصغيرة ذات العجلات الثلاث، ليست فقط فى سلوك السائقين وانتشار تعاطى المخدرات بينهم، ولا حتى أن معظمهم من البلطجية الذين يرتكبون جرائم السرقة نهارا، لكن الخطورة تكمن فى أن ذلك "التوك توك" بدأ فى دهس حرف ومهن يدوية، قد تصبح نادرة أو تتعرض للانقراض، بسبب ابتعاد الصبية، ممن لا يلقون حظهم فى التعليم، عن تعلم وامتهان الحرف اليدوية، هربا من المجهود البدنى والالتزام بالتعلم فى ورش تؤهلهم لسوق العمل الكريم.
جميعنا ممن عاشوا فى الريف أو الحضر، خاصة فى المناطق الشعبية يذكر شخصية "الواد بلية"، ذلك الشاب الصغير الذى كان يعمل مساعد الأسطى الكبير حتى يتعلم ويصبح يوما ما هو الآخر أسطى "قد الدنيا"، كما تمنى لنفسه وتمنى له أيضا المحيطين به من أهل قريته أو حارته، ومن هنا يعد جميع عمال وصنايعية مصر كانوا فى الأساس مثل "الواد بلية" قبل أن يصبح معلما له صيته الذى يسبقه عند الباحثين عن ورش تصليح السيارات أو النجارة والحدادة وغيرها من الحرف اليدوية.
ومع ولادة جيل "الآن .. الآن وليس غدا" لم يعد "الواد بلية" فى حاجة للعمل داخل ورشته، خاصة بعد ذلك التحول الذى طرأ على حياته حديثا، فلم يعد هنالك حافز يدفعه لقبول 15 جنيها يوميا مقابل يوم طويل وشاق، فى نفس الوقت الذى يستطيع فيه كسب 200 جنيه يوميا بطريقة سهلة وسريعة، تجعله يتكمن من القيام بمساعدة نفسه وأهله بالعمل على "توك توك" صغير ينتقل بخفة مثل صرصار خارج لتوه من بلوعة مجار، ولطالما تمكن بفعل هذا التوك توك من الانخراط فى حرفة أقل تعبا ومجهودا، فالظروف باتت الآن تجبره على تفضيل الراحة والمكسب السريع على تعلم الحرفة.
لقد صار "التوك توك" آفة مصر المرورية بامتياز منذ ظهوره عام 2005، ونغص حياة المواطنين على مدار أكثر من أربعة عشر عاما، رغم محاولاتنا التعايش مع هذا الشيء كوسيلة نقل سرقت منا جميع العمالة الحرفية والفنية التى كانت ماهرة، فبفضل ظهور "التوك توك" لم يعد هناك صبية للنجارين والميكانيكية وجميع الأعمال اليدوية لهذه المهن التى لطالما اعتمدت على شباب صغار السن وتعليمهم ومنحهم الخبرة لكى يصبحوا أصحاب مهن حرة فى المستقبل، وكانوا سببا مهما للغاية لتيسير وتسهيل أعمال الورش والمصانع.
اليوم تعيش مصرنا المحروسة أزمة عمال وصنايعية بسبب "التوك توك" لسهولة شرائه والعمل عليه وخاصة من قبل الأطفال، الأمر الذى جعلنا نعانى أزمة عدم توافر العمالة الفنية المدربة للمناطق الصناعية، وبالتالى انقراض الأعمال الفنية مع مرور الوقت، علما بأن كثيرا من الدول تعتبر التوك توك مركبة غير مطابقة للمواصفات الأمنية، وذلك لعدم اتزانه وعدم صلابة هيلكه الخارجى، فضلا عن عدم وجود أبواب أو أحزمة أمان يعرض الركاب للخطر فى حالة الحوادث.
الأمر الذى جعل كثيرا من الأنظمة المرورية ترفض صرف لوحات أو تراخيص لـ "التوك توك" لاعتقادها فى عدم صلاحيته للسير فى طرق المدينة، وبالرغم من ذلك لم يمتنع الكثير من السائقين عن قيادته، وأصبح من الشائع رؤية "التوك توك" ينطلق فى أنحاء المدن بدون لوحات رقمية أو ترخيص بالقيادة بسبب عدم وجود لوحات رقمية، وهو ما ساهم إلى حد كبير فى إتمام جرائم السرقة أو الاختطاف، بالإضافة إلى أن الكثيرين من الخارجين عن القانون اتخذ من "التوك توك" بديلاعن الدراجة النارية.
التوك توك يا سادة كسر كل الإشارات الحمراء، وتعدى الخطوط البيضاء، وأطاح بالقواعد، وبقى أن يجرى ضبطه وربطه بقانون فوقى، من فوق، وتحديدا من جانب مجلس النواب، بحيث لا يترك هكذا "سداح مداح"، وأيضا من جانب كل محافظ فى محافظته، فالبعض صار يخشى إمبراطورية "التوك توك"، والبعض الآخر لايزال متردداً، والبعض يراه وسيلة نافعة "أقله لمت البلطجية"، وهكذا أصبح "التوك توك" ينتشر ويتوغل حتى صار غولا يخشى منه الجميع على حياتهم.
بصراحة لا أجد مبررًا لانتشار مثل تلك الظاهرة الآن، وما ينتج عن ذلك من حوادث وتعطيل للمرور، وشكل غير حضارى فى بلد بحجم ومكانة مصر التى تعتبر مزارًا سياحيًا للعالم، وإذا لزم الأمر وجودها، ينبغى وضع تعريفة ركوب أو نظام لتعامل الجمهور، كما يمكن وضع فترة انتقالية نحو سنة للترخيص لجميع العاملين، مع ضوابط الأمن والأمان واختبارات القيادة للسائقين، ومن ثم يسهل - إذا أحسنت إدارة هذا الملف - تحويل سلبيات "التوك توك" إلى إيجابيات يستفيد منها صاحبه والجمهور أو الراكب والدولة، وذلك بضخ أموال كثيرة من تحصيلات الضرائب الناجمة عن تقنين أوضاع تلك المركبة الشيطانية التى تعيث فسادا فى شوارعنا.
الحقائق الصادمة تؤكد أن إجمالى المرخصين يبلغ 99 ألف "توك توك" فقط، وفقا لما أعلنه الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، فى إحصائية صدرت عنه فى بداية مارس 2017، وتشير تلك الإحصائية إلى خطورة أوضاع تلك الوسيلة التى تشير إلى أن عددها فى شوارع وحوارى مصر وصل إلى مليون "توك توك" على الأقل، خاصة بعد أن قام أحد أهم وكلاء السيارات باستيراد الكربات كقطع غيار وتجميعها فى مصر الآن، ما يعنى أن 90% من "التكاتك" غير مرخصة، فكيف نقنن أوضاعهم؟، ولم نتساءل مرة واحدة عن: هل وجودهم مفيد أم مضر؟، وبالتالى كيف نمنع الأطفال من قيادتهم؟، وكيف نراقبهم داخل الشوارع والحارات؟
كلها أسئلة تدور حول قانونية وجود تلك الوسيلة الشيطانية الخطرة التى خلفت العديد من جرائم الخطف والاغتصاب والتحرش والحوادث المرورية، ولا أعلم كم عدد الجرائم المطلوب وقوعها فى شوارعنا كى تتخذ الحكومة المصرية إجراء حازم وفورى تجاه هذه الوسيلة، بعدما أصبح أمر وجوده الفعلى فى قلب الشارع مثيرا للقلق والإزعاج والخطر أيضا، دون أدنى حسيب أو رقيب، حتى توغل "التوك توك" إلى قلب عواصم المحافظات فى جرأة متعمدة تحت سمع وبصر جميع أجهزة الدولة المعنية، والتى تتغافل عن هذه المشكلة حتى أصبحت ظاهرة فوضى "التوك توك" تفرض نفسها على مسئولى أجهزة المحليات ورجال المرور، ومع ذلك ظلت هذه الفوضى بعيدة عن القانون رغم خطورتها المتصاعدة.
الأمر المؤكد أن مسألة إلغاء "التوك توك" وتوجه قائديها إلى عمال وصنايعية فى مشاريع قومية أكثر إنتاجا أصبح ضرورة حتمية، فلا هى وسيلة نقل آمنة ولا نعرف هوية قائدها وأصبح ضررها أكثر من نفعها.. صحيح أن "التوك توك" بات وسيلة مواصلات ضرورية فى هوامش المدن والقرى والعزب والنجوع، ونعم أيضا صارت وسيلة رزق وأكل عيش لمئات الآلاف من الأسر وشباب العاطلين، ولكنها تظل ظاهرة مفزعة مخيفة غريبة الأطوار يخشى منها على الناس، وإذا لم تضبط فستتحول إلى وباء يضرب البلد.
ولأجل كل ما مضى علينا أن ننتبه وندقق النظر جيداً، فلغة الشباب اختلفت تماماً مع تفشى ظاهرة "التوك توك" فى حياتنا، وأصبحت التربية فى المنازل والمدارس والجامعات لا دور لها فى ظل أنماط أخلاقية جديدة علينا استمتدت من اللغة الدراجة على لسان سائقي"التوك توك"، حيث حلت الطبيعة محل التربية ودورها فى بناء أبناء متمسكين بالعقيدة والقيم والأخلاق، وأصبحنا نعيش حياة الغاب، فلو دققت النظر والسمع وأنت فى طريقك فى الشارع متوجهاً إلى أى مكان لسمعت وشاهدت صبية وشباباً من الجنسين ورجالاً وحتى نساء يتفوهون بألفاظ تأبى الآذان أن تسمعه، وتخجل العيون من مشاهدة أصحابها.
والسؤال الأهم الذى يطرح نفسه الآن: وماذا بعد؟ ماذا ننتظر من وراء هذه الظواهر الخطيرة التى تفقدنا هويتنا ونحن واقفين أمامها عاجزين وغير مبالين؟، لماذا لا نحارب تلك الظواهر الغريبة على مجتمعنا مثلما نحارب تجار المخدرات والسلاح واللحوم الفاسدة؟، ثم هل الأسباب التى أدت إلى شيوع هذه الظواهر هى اقتصادية بالأساس أم جراء زيادة نسبة الفقراء واختفاء وغياب أى مفهوم أو خطط للتنمية البشرية وتنمية الموارد المادية بشكل مثمر وفعال يعود على الوطن والمواطن معا بالنفع والرقي.
ألا يلزمنا ونحن الآن فى ظل مشاريع قومية فعالة وبناءة، البعد عن أنصاف الحلول التى قد تدر بعض النفع القليل على فئة من المواطنين مثل باعة الأرصفة وسائقى التوك توك ومن يشبههم، وذلك فى ظل عجز الدولة عن استغلالهم بشكل أكثر إيجابية مما يؤدى إلى ترسيخ ثقافة الشارع، خاصة أن الكارثة الحقيقية فى أن أغلب سائقى "التوك توك" هم من الأطفال أو الشباب المراهقين وبعض من المتقاعدين من أصحاب المعاشات التقاعدية لكسب مزيد من الرزق لمكافحة غلاء الحياة، وهذه كلها شرائح خارج العمل الرسمى، والأهم أن "التوك توك" نفسه غير رسمى، وهو بالضرورة خارج المنظومة كلها، ولكن هذا لا يمنع قدرٍا من تنظيم "اللارسمية" والعشوائية، فمناطق كثيرة بدأت تشهد روابط لسائقى التاكسى يديرها "شيخ" لهم، وهو مسئول عن عدة أمور أهمها ضبط علاقتهم بالبوليس وإدارة النزاعات والخلافات بينهم.. أظن أن هذا أضعف الإيمان.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة