"من المُعزّى، حين يخذلنا الحب، أن نسمع أن السعادة لم تكن أصلا جزءًا من الخُطّة"، هكذا قال الفيلسوف الألمانى الشهير آرتور شاوبنهاور، فى إحدى كلماته عن السعادة، فى توضيح لفلسفته التشاؤمية، والذى يري فيها الحياة ما هي إلا شر مطلق.
وتمر اليوم الذكرى الـ231 على ميلاد الفيلسوف الألمانى شاوبنهاور، المولود بمدينة جدانسك البولندية، فى 22 فبراير من عام 1788 م، عاش فى مدينة فرانكفورت الألمانية، بعدما عانى فى حياته من سلسلة من الخيبات المرة، فى المجال العاطفى، كما فى مجال التدريس، وهناك أكمل بقية حياته.
شوبنهاور
يصف البروفيسور توماس وايتاكير أستاذ الفلسفة فى جامعة ويسكينسون، الفيلسوف الألمانى الراحل، بأنه فيلسوف التشاؤم الأكبر فى العصور الحديثة، وقد ضرب المثل به وبتشاؤمه إلى حد القول بأنه أكبر متشائم فى التاريخ، ولعل ما استند عليه "وايتاكير" هو أن شاوبنهاور كان يرى أن الحياة فى أصلها ألم وحرمان، وأن السعادة هى الشىء السالب الطارئ الذى يتسلل لهذا الأصل، هذه السعادة سيعقبها شر في الغالب، أو على أقل الأحوال، سيعقبها فتور، كما كان يرى أن الإنسان كلما زكا عقله كلما كان شعوره بالألم أشد، وكلما تبلد عقله كلما كان انخراطه فى اللذة أكبر وأوسع.
أثر شوبنهاور على الثقافة الألمانية والفلاسفة اللاحقين كان كبيرا، ومن أشهر تلامذته أو أتباعه الموسيقار الكبير ريتشارد فاغنر والفيلسوف العظيم فريديريك نيتشه.
نيتشه
ولعل الأخير كانت صاحب مدرسة من أبرز المدارس العدمية فى تاريخ الفلسفة الأوروبية الحديثة، خاصة عندما أعلن نظريته الشهيرة "موت الإله"، وهى أن الإله لم يضعنا فى مركز الكون، حيث توصل لهذه الحقيقة من الأصل المتواضع الذى تطور منه الإنسان، فشاهدنا أخيرًا العالم الحقيقى، حيث لم يُخلق الكون بأكمله للوجود الإنسانى فقط، وكان ما خشيه نيتشه من أن التوصل لهذا الفهم للعالم سيؤدى حتمًا إلى التشاؤم، الإرادة إلى العدم، والتى كانت مناقضة للفلسفة المؤكدة للحياة التى أثارها نيتشه.
ابو العلاء المعري
وبالرجوع إلى العصور ما قبل شاوبنهاور، كان هناك العديد من المفكرين العرب فى العصور السابقة للقرن الثامن عشر، ممن وصفت كتاباتهم بالتشاؤمية، مثل الشاعر العربى أبو العلاء المعرى، وكانت للتشاؤم عند "أبو العلاء" دواع عدة، ذكرتها دراسة بعنوان "التشاؤم فی شعر أبی العلاء المعری وعبد الرحمن شکری" نشرتها مجلة إضاءات نقدية فى عددها الصادر فى ديسمبر 2013، منها أنه كان يعانى من فقد بصره، وكان قد أصيب بالجدرى بعد أربعة أعوام من مولده فذهب بصره، ولم يعرف من الألوان إلا اللون الأحمر وهو لون الثوب الذى لبسه يوم ما أصابه الداء، يضاف إلى ذلك موت والديه وفقره الشديد، وقد ملأ أبو العلاء كتابه "اللزوميات" بهذا التشاؤم الواسع من الدنيا ووصف الحياة بأنها دار الآلام والعذاب، فضلا عن أن الشاعر الراحل كان يعيش فى زمن ملىء بالفساد بكل أشكاله الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وكان المعرى يرى أن حياة الإنسان كلها بيد القدر هو المسيطر على كل شىء ولا يستطيع الإنسان الخلاص منها وهو سيموت لا محالة، كما مات من سبقه، وجعلت كل تلك العوامل الشاعر شديد التشاؤم بحيث لا يرى فى الحياة أى تفاؤل وهو ما زال يدافع عن تشاؤمه، كما يقول عنه عميد الأديب العربى الدكتور طه حسين فى كتابه الشهير "طه حسين مع أبى العلاء فى سجنه"، "كنت أحدث أبا العلاء بأن تشاؤمه لا مصدر له فى حقيقة الأمر إلا العجز عن ذوق الحياة والقصور عن الشعور بما يمكن أن يكون فيها من جمال وبهجة ومن نعيم ولذة، ويقول أبو العلا إنك ترضى عما لا تعرف وتعجب بما لا ترى".
ابن الرومى
وكان من بين الشعراء العرب الذين عرف عنهم نظرتهم التشاؤمية، الشاعر ابن الرومى، الذى عرف واشتهر بالشاعر المتشائم، وبحسب دراسة للباحثة الإيرانية مزكان حسين بور، بعنوان "ابن الرومى: حياته الشخصية والأدبیة"، فإن ابن الرومى كان مفرط الطيرة أى التشاؤم، شديد الغلو فيه، وکان التشاؤم تجسيداً لموقفه العام من الحياة، ولعجزه من الإيمان بجدواها وتعلقها ونظامها، فعين حولاء، أو يد مشلولة، أم قدم عرجاء، إنما هى رمز للنقص والعاهة فى العالم وهى تطالعه، إنما تنذره بأن خطباً ما يسلم به أو أنه سيصاب بضرب من ضروب النقص والخسارة.
شارل بودلير
بالعودة إلى الفلسفة الأوروبية، خاصة فى القرنين الماضيين، خرج الشاعر الفرنسى الأشهر شارل بودلير، وهو أحد الشعراء الذين خرجوا من عباءة الفلسفة العدمية الناقمة على الوجود الإنسانى، وخلط الجمال بالقبح والخير بالشر، بعد ألقت حياته الشخصية التعيسة بظلالها على شعره، وكان ديوانه "أزهار الشر" جاء تعبيرا عن توجهه الشعرى كصوت يبحث عن الجمال المنبعث من الشر، وتعبر روح بودلير عن المرحلة العدمية الأدبية الغربية، وعن الصراع الفكرى للغرب مع الوجود الإنسانى، ويقول فى نص موت العشاق: "سيكون لنا مضاجع مفعمة بالعطور الناعمة، وأرائك عميقة بعمق القبور، وزهور غريبة تنفتح لأجلنا، تحت سموات لا أحلى ولا أجمل"، وذلك بحسب كتاب " تاريخ الأفكار: دوائر الفكر الحديث" للكاتب ماجد الحمدان.
إميل سيوران
وكان هناك أيضا الفيلسوف الرومانى، إميل سيوران، والذى تأثّر فى بدايات شبابه بفلسفات وجودية وفاشية، وقادته إصابته المستمرة بالأرق للتفكير فى الانتحار وصياغة فلسفته التشاؤمية.
وذكر عن الفيلسوف فى يونيو عام 1995، أنه عانى من الأرق الذى أزعجه كثيراً وفكر بسبب ذلك عدة مرات بالانتحار لكن سرعان ما حول الأرق إلى سبيل للمعرفة حيث قام بتأليف أول كتاب له عام 1934 على قمة اليأس، وهو الكتاب الذى أنقذ حياته من الانتحار.
وعرف عن صاحب كتاب "لو كان آدم سعيدا" أنه حاول الابتعاد عن الجمهور ووسائل الإعلام قدر المستطاع، وكان حتى وفاته عن عمر 84 عاما، بمرض العضال، يرفض الجوائز بجميع أنواعها، وكان دائما يقول: " سأكتب على مدخل منزلي كل زيارة هى اعتداء أو ارحمونى، لا تدخلوا أوكل الوجوه تقلقنى أوغائب دوما أوملعون من يدق الباب أو لا اعرف أحدا أومجنون خطر".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة