لماذا لا نشيد بأحد إلا بعد أن يرحل؟
هل لأننا فراعنة، ونفضل الحياة الأخرى على الحياة الدنيا، ولذلك اهتممنا بتزيين مقابرنا، وزيناها بالنقوش، وبالأحجار الكريمة، والذهب والفضة؟ أما بيوتنا فكنا نشيدها بالطين اللبن.
قد يكون، وقد يكون خوفنا الدائم من أن نقول كلمة ثناء فى حق إنسان فنرمى بالباطل، وبأننا نفعل ذلك ابتغاء منفعة أو مصلحة، أو لدرء أذى،
أيضا قد يكون، ولكن للأسف هذه عادة مصرية أصيلة ومتجذرة جعلت الخروج عنها يعد استثناء، وجعلت مثلا فنانا مثل العظيم حسن حسنى يقول وهو يتسلم تكريمه من مهرجان القاهرة السينمائى فى دورته الأخيرة يقول: الجميل فى هذه الجائزة أنى استلمتها وأنا ما زلت «عايش»!
قبل أيام رحلت إنسانة عظيمة بأفعالها وبثمارها وببذورها التى زرعتها، وأنتجت أشجارا يانعة وارفة تظلل روحها الطاهرة، ماتت الدكتورة، هبة خفاجى، طبيبة الغلابة، أستاذ الأورام بكلية الطب بقصر العينى واستشارى علاج الأورام، إثر تعرضها لأزمة قلبية مفاجئة.
منذ رحيلها قبل أيام واسمها وصورتها يتصدران مواقع التواصل، الكل يرثى وينعى الدكتورة هبة سواء كانوا من المشاهير أو الفنانين أو مواطنين عاديين، وقيادات نقابة الأطباء ومواطنون عاديون نزل عليهم خبر وفاتها كالصاعقة.
لا أعرفها من قبل، وربما ولا أنت تعرفها إلا إذا كان لك حبيب، أو قريب أو جار، أمتحنه الله بمحنة مرض السرطان، مرضاها، وأسرهم يشهدون لها أمامنا، ويبكون رحيلها الذى أعتبروه مفاجئا، فماذا عن شهادتهم أمام رب العباد؟
شهادة مرضى الدكتورة هبة مكتوبة بمداد من ذهب، ويشهد لها جدران وطرقات المستشفيات التى مشت فيها تلتمس علاجا لمريض، أو تمسح على رأس مريضة سرطان كى تدعمها فى معركة شرسة، مع مرض يقهر ولا يرحم، وتشهد لها ابتسامة طفل، استيقظ على يدها ممدوة له، تتابع حالته، وتلتمس له الشفاء.
ربما يكون ذلك من المرات القليلة التى يكون فيها هناك مردود وفعل مثمل لمواقع التواصل الاجتماعى، لأنه عرفنا بحجم ما أنجزت د. هبة رغم رحيلها المبكر عن عالمنا.
أمثال الدكتورة كثيرون، يعيشون بيننا فى كل مجال، ولا يريدون جزاء ولا شكورا، قبل سنوات أنقلب عالم السوشيال ميديا أيضا على رحيل الحج صلاح فى إحدى محافظات الدلتا، شيعه إلى مثواه الأخير آلاف مؤلفة، ازدحمت بهم الطرق الرئيسية والفرعية المؤدية إلى طريق المقابر، لم يذهبوا لتوديعه لأنه عضو مجلس شعب ولا جار حماة سيادة الوزير المحافظ «!!» ولكنه كان رجلا خيرا، بجد، فى خدمة الناس، يسعى لقضاء حوائجهم، واكتشفوا أن له يدا بيضاء على كل بيت.
الكاتب العظيم الراحل أحمد خالد توفيق، رحل فجأة عن عالمنا- وكأن ملك الموت يحتاج إلى استئذان أو إعلان- لينقلب أيضا عالم السوشيال ميديا رأسا على عقب، وليتأكد لدينا أننا أمام كاتب ومؤلف ومبدع من العيار الثقيل، نعرف ذلك، ولكننا لم نكن ندرك أنه لهذه الدرجة نجح فيما فشلت فيه وزارتا الثقافة والشباب، نجح فى فك طلاسم عالم الشباب، وامتلك مفاتيحه، وأتقن لغته، واستطاع أن يصل، رحمه الله، بحرفية يحسد عليها إلى وجدان وعقل هذا الشباب الذى بكاه يوم رحيله، سواء على مواقع التواصل، أو بالذهاب إلى طنطا، حيث أصر أن يعيش، ولم يضعف أمام مغريات انتقاله إلى عالم القاهرة الصاخب.
ولأن الشىء بالشىء يذكر، فقد رحل عن عالمنا قبل أيام أستاذى، وأستاذ أجيال، الكاتب الصحفى مصطفى بلال مدير تحرير جريدة الأخبار، وتحول الفيس بوك بسبب فقده إلى سرادق عزاء كبير، الكل ينعيه، وينعى أدبه وأخلاقه، ونزاهته، واحترامه، ودقته فى عمله، وهذه صفات أصبحت نادرة فى هذا الزمان للأسف، كان الراحل مصطفى بلال يحتاج إلى أن يشعر بهذا الحب والتقدير الذى كنا نكنه له، ربما رفع ذلك من مناعة جسمه فى حربه الشرسة مع مرض السرطان الذى لا يرحم.
لماذا نبخل بكلمة حب وتقدير على من نراه ناجحا مخلصا فى عمله؟
لماذا لا نقول لمن نحب ونقدر أننا نحبه ونعتز به ونأنس بجواره؟
هل يجب أن ترحل الأم، لكى تظل تبكيها بقية عمرك، وتحتضن صورتها، لماذا لا تقول لها، حتى بدون سبب أننى أحبك يا أمى، قبل يدها، ولو سمحت قدمها، واحتضنها واملأ صدرك من عبير أنفاسها، وتدثر بضلوعها التى احتوتك.. لا تنتظر ذهاب والديك لتقول إننى «كنت» أحبهما.
ارفع سماعة التليفون واشكر مدرسة أخلصت فى تعليمك، وقل لها إنك تحبها، وأنها سبب نجاحك فى الحياة، تليفون مثل هذا يفوق فى تأثيره «كورس» علاج مكثف، قل لمن علمك حرفا، أو شق لك طريقا أو أخذ بيدك يوما أنك تثمن وقفته بجوارك، ورد له الجميل بكلمة طيبة.
لا تنتظروا رحيل الأحباب، لتبكوهم، ولا تنتظروا رحيل الرموز، وأصحاب العطاء لتكرموهم.. كرموهم أحياء، ليكونوا لغيرهم قدوة، ولكى نكون دولة حياة، ولا دولة أعظم آثارها هى أكبر وأعظم مقبرة على وجه الأرض!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة