على الرغم من اللهجة الحادة التى يتبناها الرئيس الروسى فلاديمير بوتين تجاه مقاتلى تنظيم داعش فى كلا من سوريا والعراق، منذ قراره بالانغماس فى الصراع السورى، إلا أنه اتجه مؤخرا إلى إعادة عائلات مقاتلى التنظيم من النساء والأطفال من ذوى الأصول الروسية إلى بلدانهم، فى منحى يراه قطاع كبير من المتابعين مخالفا للنهج الروسى المتشدد تجاه الميليشيات المتطرفة، ليتخذ خطوة السبق من جديد بين نظرائه سواء فى أوروبا أو الولايات المتحدة فيما يتعلق بعودة أسر المقاتلين إلى أراضيهم، فى ظل مخاوف كبيرة من دول المعسكر الغربى من احتمالات قيام تلك العناصر بعمليات إرهابية قد تستهدفهم داخل بلدانهم فى المستقبل، وبالتالى فيعتبرون أن عودة تلك العناصر بمثابة تهديد أمنى.
الرئيس بوتين برر الخطوة التى اتخذتها بلاده بقوله بإن "الأطفال لم يختاروا الذهاب إلى منطقة الصراع، بينما نحن لا نملك الخيار لنبقيهم هناك إلى الأبد"، وهو ما يطرح العديد من التساؤلات حول الأهداف التى تكمن وراء مثل هذه الخطوة التى اتخذتها موسكو فى إطار مواجهتها مع الغرب فى المرحلة المقبلة، فى ضوء تنامى الصراع مع الولايات المتحدة وحلفائها حول العديد من القضايا الدولية، وعلى رأسها الأوضاع الراهنة فى فنزويلا، بالإضافة إلى الانسحاب الأمريكى من معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى، والتى أبرمتها واشنطن مع الاتحاد السوفيتى فى السنوات الأخيرة للحرب الباردة، وكذلك دعوات حقوق الإنسان التى كانت بمثابة منصة غربية لإطلاق صواريخ الانتقاد تجاه موسكو لسنوات.
نهج جديد.. بوتين يكسر صورة الغرب "الإنسانى"
ولعل النهج الروسى الجديد يحمل فى طياته بعدا إنسانيا لم تعتاده موسكو، منذ أن انتزعت زمام المبادرة فى الحرب على داعش على حساب دول المعسكر الغربى، عندما قرر الرئيس بوتين الاستجابة لنداء دمشق بالتدخل العسكرى فى بلاده للقضاء على الإرهاب، لتنجح القوات الروسية فى تكبيد الهزائم المتلاحقة لتنظيم داعش الإرهابى، وتحرير مساحات واسعة من الأراضى التى كانت بقبضته، بينما ألحقت فى الوقت نفسه "عار" الفشل بقوات التحالف الدولى، الذى تقوده الولايات المتحدة، بعد مهادنتها للميليشيات المتطرفة، وبالتالى فشلها فى تحقيق أى إنجاز يذكر فى مجابهة التنظيم المتطرف، لسنوات طويلة.
أطفال داعش
وهنا يمكننا القول إن الخطوة الروسية تهدف إلى الحصول على زمام المبادرة من جديد فى معركته مع الغرب، ولكن فى هذه المرة على الجانب الإنسانى، بعد سنوات من الانتقادات الغربية لموسكو بسبب ما أسموه بـ"الانتهاكات الوحشية" فى سوريا، فى إشارة إلى الهجمات التى خاضتها القوات الروسية ضد معاقل التنظيم المتطرف، ربما ليضفى وجها إنسانيا جديدا لروسيا، عبر إعادة الأطفال والنساء إلى بلدانهم من جديد، ووضعهم تحت المراقبة، وإعادة تأهيلهم من جديد للتعايش مع المجتمع، فى خطوة ربما تهدف فى الأساس إلى تكسير الصورة النمطية التى كثيرا ما حاول الغرب ترويجها سواء لنفسه باعتباره المدافع الأول عن حقوق الإنسان من جانب، أو فى تشويه صورة روسيا باعتبارها المسئول الأول عن الانتهاكات التى تشهدها سوريا من جانب آخر.
الأقلية المسلمة.. بوتين يقطع الطريق أمام محاولات إثارة النزعة الطائفية
إلا أن الخطوة الروسية لا تقتصر فى أهدافها على مجرد الانتصار على الخصوم الغربيين فى معركة حقوقية، أجاد الغرب استخدامها بامتياز لتأليب المجتمعات فى العديد من مناطق العالم، وإنما امتدت إلى قطع الطريق أمام الغرب إثارة النزعة الطائفية فى الداخل الروسى، خاصة وأن موسكو لديها أكثر من 25 مليون مسلم، حاولت القوى الغربية تأليبها على النظام الحاكم عبر استخدام الحروب الروسية على الجماعات الإرهابية سواء فى محيطها الجغرافى أو فى منطقة الشرق الأوسط، ليتحولوا إلى نواة من الغضب فى الداخل الروسى يمكن استخدامها فى المستقبل لمقايضة الرئيس الروسى.
مسلمو روسيا
وتعد دعوة السيدات اللواتى تورطن فى الانضمام إلى التنظيم المتطرف للعودة بصحبة أطفالهن إلى الوطن، والسماح لهن بالحديث فى الإعلام والمنتديات عن تجربتهن، بمثابة دليلا دامغا على استهداف مسلمى روسيا بالخطوة المثيرة للجدل، حيث يحاول تقديم رسالة مفادها أن حرب التى تخوضها موسكو تستهدف الإرهاب، وليس المسلمين، على عكس الدعايا الغربية المناوئة له، كما أنه فى الوقت نفسه يقدم العبرة والعظة وربما الردع لمن يفكر من الروس انتهاج طريق التطرف أو تهديد أمن البلاد فى المستقبل.
فضح الدعايا الغربية.. روسيا تدشن مفهوما جديدا للحرب على الإرهاب
ولعل الدور الكبير الذى لعبته روسيا فى القضاء على داعش ساهم بصورة كبيرة فى فضح الدعاية الأمريكية الأوروبية، والتى دارت لعقود طويلة حول حربهم المزعومة على الإرهاب فى العديد من مناطق العالم، خاصة وأن التدخلات الغربية ربما ساهمت فى زيادة معدلات الإرهاب، بينما كانت تهدف فى الأساس إلى تحقيق مصالحهم بعيدا عما كان يتم الإعلان عنه، وهو ما يبدو واضحا فى أفغانستان والعراق، واللذين عانيا كثيرا من جراء تصاعد أنشطة الميليشيات المتطرفة، بعد التدخل العسكرى الأمريكى فى كلا منهما.
المعسكر الغربى فشل فى رفع لواء الحرب على الإرهاب
إلا أن الدور الروسى بدا مختلفا إلى حد كبير فى سوريا، حيث دشنت موسكو مفهوما جديدا للحرب على الإرهاب، لا يقتصر على مجرد القضاء على الميليشيات المتطرفة، بينما تتحرك فى الوقت نفسه لرسم خارطة سياسية لمستقبل البلاد، بالتزامن مع خطوات من شأنها إعادة تأهيل أطفالها الذين تورطوا دون قصد فى الإنضمام لتلك الميليشيات، حتى يمكنهم التعايش مع المجتمع فى المرحلة المقبلة، لتقدم صورة جديدة للحرب ضد الإرهاب، لا تقتصر على الدور العسكرى، وإنما تحمل كذلك جانبا سياسيا يهدف إلى إعادة الحياة السياسية إلى طبيعتها فى الدولة محل الصراع، بالإضافة إلى جانب إنسانى افتقده الغرب فى حروبه السابقة التى إدعى أنها تهدف إلى القضاء على الإرهاب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة