فى رأيى أن الجيل الذى ولد أثناء الحرب العالمية الثانية أو بعدها بقليل وقع ضحية لهذه الحرب وأهوالها النفسية، فلقد كان آباؤهم مرتبكين بشكل كبير، ونقلوا هذه الربكة للأبناء، وبوعى أو بدونه تأثر هذا الجيل الذى لم يشهد الحرب بشكل مباشر بفظائع الحروب التى تسللت إليه فى حكايات ما قبل النوم وجعلته يقضى بقية أيامه على حافة الخطر والترقب.
شاهدت فيلم الملحمة البوهيمية Bohemian Rhapsody الذى حصل بسببه النجم رامى مالك على أوسكار أفضل ممثل، والذى يرصد حياة الفنان فريدى ميركورى نجم فرقة «كوين» الذى رأى نفسه فى لحظة ما «لمسة من الجنة» لكن فى الواقع حياته لم تكن كذلك بل كانت قطعة من الجحيم ذاته.
لم يكن فريدى يشعر بحالة جيدة تجاه ذاته، لقد كان يرى نفسه «مأزوما» بشكل دائم، ربما بصورة لم يستطع صناع الفيلم أن يصلوا لأسبابها ولم يعرفوا الوقوف على بواعثها الحقيقية، لم يعرفوا بالتحديد إجابة لسؤال صعب وغريب: لماذا كان ذلك الفتى الذى حقق نجاحًا كبيرًا وتحول من حامل حقائب فى المطار إلى نجم موسيقى يظل غاضبًا من نفسه بهذا الشكل الصعب؟
المتابع للمجتمع البريطانى فى فترة السبعينيات سيعرف جيدا جانبا من أزمة فريدى، لقد كان المجتمع لا يزال عنصريا ضد الوافدين وفريدى جاء والداه من زنجبار، وكان الجميع يظنونه إندونيسيا، ربما لبشرته الداكنة بعض الشىء، وفى البداية كان مجبرا على الإجابة «لست إندونيسيا».
المهم أن فريدى كان يشعر بالوحدة، يعيشها ويخشاها فى الوقت نفسه، صنع منها «فقاعة» كبرى لا يستطيع الخروج منها، ولا يقوى على التنفس داخلها، أنكر كل شىء، حتى ادعى أن والديه ماتا فى حادث ما.
والاستسلام لمثل هذه الأشياء البسيطة كانت حماقة كبرى دفع فريدى ثمنها تماما، لأنها لم تكن حديثة مرتبطة بفنه ونجاحه بل هى شىء نما معه منذ طفولته جعله يسعى بجدية لإنهاء حياته بطريقة أو بأخرى.
كان يتنازعه شيئان متناقضان، فهو كاره لوجوده وفى الوقت نفسه مشغول بصناعة موسيقى مختلفة، لذا لم يشأ أن يكرر نفسه أبدًا، كانت أفكاره الموسيقية متطورة، يتحرك بالفرقة إلى الأمام إلى الوجود الحقيقى والنجاح الكبير، لكن الصراع النفسى بين حبه لعمله وكراهيته لذاته ظل مسيطرًا عليه طوال الوقت.
«فريدى» تجربه غريبة فى الحياة، تدفع الإنسان للوقوف عندها وتأملها، لا يحاكمها لكن يحاول فك شفراتها، وبالتأكيد سوف يعجز عن ذلك، لكنه سيتعاطف معه بقوة ويغنى معها أغنيته الأولى «ابق مفعمًا بالحياة».