- لم يُعرف لفظ الحاكمية فى التاريخ الإسلامى إلا فى القرن الرابع عشر الهجرى وأول مَنْ أطلقها أبوالأعلى المودودى وردَّدها من بعده سيد قطب ومنذ ذلك الحين شاع اللفظ بين الجماعات الإسلامية.. والدكتور العوارى: الحاكمية عند جماعات المتطرفين هى استخدام للدين من أجل الوصول إلى السلطة ونقل الصراع السياسى إلى صراع دينى يسمح بتزييف وعى الأمة وتخديرها للوصول إلى سدة الحكم
أفكار متطرفة وجماعات متشددة، تلصق نفسها باسم الإسلام والإسلام منها برىء، وتشوه بممارساتها صورته، ما أظهر الحاجة لدى المؤسسات الدينية، وعلى رأسها الأزهر الشريف لضرورة الرد على تلك الحجج التى يسوقها أرباب الفكر المتطرف، ويلصقونها بالدين، بينما يحاول علماء الدين فى شتى بقاع الأرض رفع تلك التهمة عن الدين الحنيف، وفى هذا الإطار حاولت المنظمة العالمية لخريجى الأزهر أن تلعب دورها، خاصة وهى التى تمتلك مركزا متخصصا لتفنيد الفكر المتطرف، فعملت على إصدار سلسلة كتيبات بعنوان «سلسلة تفنيد الفكر المتطرف» مخصصة للرد على حجج الجماعات الإرهابية الواهية، الحجة بالحجة والدليل بالدليل والبرهان بالبرهان.
السلسلة التى تصدى لتقديمها الشيخ الدكتور محمد عبد الفضيل القوصى، عضو هيئة كبار العلماء، وكتب فيها أئمة الجامع الأزهر وعلماء جامعته الكبيرة، أصدرت حتى اليوم 11 كتيباً، كل كتيب منها يختص بمعالجة قضية فقهية محددة من بينها مفهوم المواطنة الذى ألفه الشيخ الدكتور عبد الفتاح العوارى عميد كلية أصول الدين، وآخر بعنوان موقف الإسلام من استخدام الدروع البشرية، وثالث يحدد موقف الإسلام من العمليات الانتحارية، ورابع يضرب أمثالا من حالات الغلو فى العهد النبوى، وكيف تمت معالجتها، وخامس يشرح مفهوم الحاكمية فى الإسلام، وسادس عن الجهاد فى الإسلام وضوابطه، وسابع لقضية الولاء والبراء ومفهومها ونشأتها، وثامن لمفهوم الخلافة، وتاسع لمفهوم الجاهلية، وهكذا ليصبح بين يدى القارئ سلسلة كاملة متخصصة للرد على تلك المزاعم التى ألصقتها جماعة العنف الدينى بالإسلام.
تواصل المنظمة العالمية لخريجى الأزهر مساهماتها فى مواجهة دعاوى الفكر المتطرف، ضمن سلسلة كتيبات أصدرتها بعنوان «سلسلة تفنيد الفكر المتطرف»، وأصدرت منها حتى الآن 11 كتابًا، كل كتيب منها يختص بمعالجة قضية فقهية محددة.
الجهاد في الاسلام
وتحت عنوان «مفهوم الحاكمية» كتب الدكتور عبد الفتاح العوارى، عميد كلية أصول الدين جامعة الأزهر، مشيرًا فى البداية إلى أن «الحاكمية فى الاصطلاح»، تعنى أنَّ مصدر الأحكام الشريعة الإسلامية لجميع المكلفين هو الله تعالى وحده، مضيفًا أن علماء الأصول قرروا، فى مبحث الحاكم، أنَّ الحاكم، والمشرع هو الله تعالى وحده لا شريك له ، ولافتًا إلى أن لفظ الحاكم أطلق على الله تعالى فى القرآن الكريم، وأُريد به، حيث ورد فى ثلاثة معان:
أولها الحكم التشريعى، حيث يقول تعالى:«مَا تَعْدون مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ»، فالحكم هنا تشريعى يتعلق بالعقيدة القائمة على التوحيد الخالص، وقوله تعالى: «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} إبطال لجميع التصرفات المزعومة لآلهتهم، أى أنه «ما الحكم فى شأن العقائد، والعبادات، والمعاملات، وفى صحتها، أو عدم صحتها إلا لله تعالى وحده؛ لأنه الخالق لكل شىء، والعليم بكل شىء».
وقال سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّى الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ»، فحكم الله هنا بمعنى تشريعه المتعلق بالعقود ونحوها، وقوله: ﴿ِإنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيد﴾، أى أن الله جل ثناؤه يقضى فى خلقه ما يشاء من تحليل ما أراد تحليله، وتحريم ما أراد تحريمه؛ كما شاء بحسب الحكم، والمصالح التى يعلمها سبحانه، فأوفوا بعقوده، وعهوده، ولا تنكثوها، ولا تنقضوها».
وحكم الله التشريعى تكليف للبشر، فمَنْ امتثل أمره، واجتنب نهيه، فاز وسعد، ومَنْ خالفه، وأعرض عنه خسر الدنيا والآخرة.
ثانيا الحكم القدرى الكونى، ومعناه أنَّ الله أجرى السنن، والنواميس الكونية التى تحكم الكائنات بإرادته وحده، متى أرادها وقعت، ولا يستطيع بشر تغييرها أو التمرد عليها.
ثالثا: الحكم الأُخروى، ومعناه أنَّ الله تعالى يحاسب الناس على أعمالهم يوم القيامة حين يقفون بين يديه، فيثيب المحسن، ويعاقب المسىء، فيقول تعالى:﴿ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ».
القوصى
إطلاق لفظ الحكم على البشر
يتساءل الدكتور العوارى «هل يجوز إطلاق لفظ الحاكمية على أحدٍ من البشر؟، ويجيب: نعم»، مشيرا إلى أن كثيرا من آيات الذكر الحكيم أسندت الحاكمية للبشر، ومدللا بقوله تعالى:﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾، وقوله ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ «78» فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾[الأنبياء/77، 87]، وقال تعالى مخاطبًاﷺ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾.
ويواصل «إن قلتَ: ما أوردته من نصوص قرآنية قد أُسند الحكم فيها إلى أنبياء الله، ورسله، وهؤلاء معصومون بالوحى الإلهى، فهلا ذكرت لنا نصوصًا أُخرى قد أُسند الحكم فيها لعامة البشر غير المعصومين بالوحى الإلهى؟ ، قلتُ: أجل، القرآن الكريم تضمن كثيرًا من النصوص التى أُسند الحكم فيها لغير الأنبياء من البشر، وإن رمت دليلًا على ذلك، فاقرأ قول الله تعالى فى تحكيم الرجال فى جزاء قتل الصيد حال الإحرام: ﴿فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾، وقال أيضًا فى تحكيمهم فى الخلافات الزوجية: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾.
وسمَّى القرآن القضاة حكامًا، فقال: «وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ».
ووصف الله تعالى ذاته الأقدس بقوله مخاطبًا رسوله ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾، وبقوله على لسان نوح عليه السلام: ﴿وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾.
ويخلص العوارى إلى أن كل ذلك ينبئ، ويفصح عن جواز إطلاق لفظ الحاكم على الله وعلى البشر، لكن بمعنيين مختلفين، ولا تنافى بينهما كسائر الألفاظ التى يجوز فيها الاشتراك.
ومن ثمَّ، فالحاكمية نسبة إلى الحاكم، وقد يراد به الربُّ جل وتقدس، وقد يراد به الحاكم من البشر، والحاكم من البشر فى دنيا الناس قد يُسمَّى إمامًا، أو خليفةً، أو أميرًا، أو ملكًا، أو رئيسًا، فكل هذه أسماء لمفهوم واحدٍ هو قيادة الناس بشرع الله، وسياسة الدنيا بالدين.
منظمة خريجى الأزهر
مفهوم خاطئ
يقول الدكتور العوارى «لم يُعرف لفظ الحاكمية فى التاريخ الإسلامى إلا فى القرن الرابع عشر الهجرى، وأول مَنْ أطلقها أبو الأعلى المودودى، وردَّدها من بعده سيد قطب، ومنذ ذلك الحين شاع لفظ الحاكمية بين الجماعات الإسلامية»، ويعنون به: إفراد الله تعالى بالحكم، والتشريع، والسلطان، واستمداد كل التشريعات، والنظم منه وحده، فالحاكمية عندهم لله وحده، لا تجوز لبشر أيَّا كان.
يقول أبو الأعلى المودودى: «تطلق هذه الكلمة – يعنى الحاكمية- على السلطة العليا والسلطة المطلقة، على حسب ما يصطلح عليه اليوم فى علم السياسة»، ويقول: «إنَّه لا يجوز لأحدٍ غير الله أن ينفذ حكمه فى عباد الله، إنه ليس هذا الحق إلا لله وحده»، وقد نحا نحوه سيد قطب، وذلك حيث يقول: إن الحكم لا يكون إلا لله، فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته؛ إذ الحاكمية من خصائص الألوهية مَنْ ادعى الحق فيها، فقد نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته سواء ادعى هذا الحق فرد، أو طبقة، أو حزب، أو هيئة، أو أمة، أو الناس جميعًا فى صورة منظمة عالمية، ومَنْ نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته، وادعاها، فقد كفر بالله كفرًا بواحًا، يصبح به كفره من المعلوم من الدين بالضرورة، حتى بحكم هذا النص وحده!
ويتابع: ممَّا سبق يظهر لنا أنَّ الحاكمية عند هؤلاء من أصول الدين، ومن صلب العقيدة، وبالتالى فإنَّ عدم تطبيقها، أو رفضها يعنى الكفر الصريح، ويستدلون على ذلك بقول الله سبحانه: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ»، وَالحاكمية عند هؤلاء ترفض حكم البشر، بل تطالب بضرورة الثورة عليه، ولذلك تأسست النظرية السياسية فى الإسلام على نزع جميع سلطات الأمر، والتشريع من أيدى البشر، ولايؤذن لأحد منهم أن ينفذ أمرًا فى بشر مثله فيطيعه.
ويبدأ العوارى بمناقشة هذا المفهوم الخاطئ مبينًا بداية أنه «لا تنافى بين إطلاق لفظ الحاكم على الله وعلى البشر، إذ هذا الإطلاق من قبيل المشترك اللفظى، فهذا اللفظ يصح إطلاقه على الله تعالى؛ كما يصح إطلاقه على البشر»، والذى نريد أن نؤكد عليه أنَّ الحاكم من البشر رجل لا عصمة له يأتى به أهل الحل، والعقد باختيار حر، واستفتاء عام يُسمَّى البيعة «أو بالمصطلح المعاصر الاقتراع المباشر»، ويستند حكمه على مقوماتٍ لابُدَّ من تحققها كالعدل، والشورى، واجتهاده فى سنِّ القوانين، والتشريعات التى تحتاجها أمته فى إطار الكليات الشرعية المتضمنة لجزئياتها بما يجعل قضاءه، وحكمه بين رعيته بالحق والعدل، وهذا الصنيع لا يكون قادحًا، ولا متعارضًا فى أنَّ الحكم حقيقة لله عز وجل، بما يعنى عدم صحة هذا الزعم من قائليه.
ويلفت إلى أن أخطر شىء فى مفهوم الحاكمية فى فكر هؤلاء القوم هو وضع الإنسان مقابل الإله، والمقارنة الدائمة بين المنهج الإلهى، والمناهج البشرية، ومن البدهى لو سلمنا بهذا المفهوم لأغلق باب الاجتهاد أمام الراسخين فى العلم بالكلية، فى حين أن نصوص الشريعة حاثة على إعمال الفكر، وإنعام النظر، والتسليم لهؤلاء يؤدى إلى تعطيل العقل البشرى عن قيامه بدوره فى إثراء الحياة الفكرية.
ويؤكد أن طرح مفهوم الحاكمية بهذه الصورة هو استخدام للدين من أجل الوصول إلى السلطة والحكم، ونقل الصراع السياسى إلى صراع دينى يسمح بتزييف وعى الأمة، وتخديرها للوصول إلى سدة الحكم.
ويشير إلى أن قول هذه الجماعات أن «السلطة فى يد البشر كفر» يناقضها ما قد تقرر فى أصول الإسلام من أنَّ المجتمع هو الذى يراقب الحاكم المسلم، وهو الذى يعينه ويعزله، لافتا إلى أن «هناك فى مصالح الدولة أمورا تحتاج إلى تشريعات لم يرد فى شأنها نص فى القرآن، أو السنة»، ولهذا كانت أدلة الأحكام الشرعية مستمدة - بعد الكتاب والسنة من: الإجماع، والقياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة، والعرف، والاستصحاب، وشرع مَنْ قبلنا.
عبد الفتاح العوارى
استدلال ورد
يقول الدكتور العوارى. إنَّ المعول عليه فى الإيمان هو التصديق بالقلب، وليس الإقرار باللسان، ولا العمل ركنين فيه، وهذا ما عليه أهل السنة والجماعة «الأشاعرة»، وما عدا هذا القول الذى عليه جمهور الأمة إنَّما هو قول الخوارج الذين ذهبوا إلى تكفير مَنْ لم يحكم بما أنزل الله من أهل الإسلام، وقد ردَّ الأئمة المحققون هذا القول على الخوارج، وبيَّنُوا بطلانه من عدة أوجهٍ ذكرها الإمام الفخر الرازى، رحمه الله، عند تفسيره لآية المائدة، فقال: «المسألة الثانية: قالت الخوارج: كلُّ مَنْ عصى الله فهو كافر، وقال جمهور الأئمة: ليس الأمر كذلك، أمَّا الخوارج، فقد احتجوا بهذه الآية، وقالوا: إنَّها نص فى أنَّ كلَّ مَنْ حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر، وكل مَنْ أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله، فوجب أن يكون كافرًا».
وذكر المتكلمون والمفسرون أجوبة عن هذه الشبهة، أولها أنَّ هذه الآية نزلت فى اليهود، فتكون مختصة بهم، وهذا ضعيف؛ لأنَّ الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومنهم مَنْ حاول دفع هذا السؤال، فقال: المراد ومَنْ لم يحكم من هؤلاء الذين سبق ذكرهم بما أنزل الله، فأولئك هم الكافرون، وهذا أيضاً ضعيف؛ لأنَّ قوله: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ﴾ كلام أدخل فيه كلمة «مِنْ» فى معرض الشرط، فيكون للعموم، وقول مَنْ يقول: المراد ومن لم يحكم بما أنزل الله من الذين سبق ذكرهم، فهو زيادة فى النص، وذلك غير جائز.
الثانى: قال عطاء: هو كفر دون كفر، وقال طاوس: ليس بكفر ينقل عن الملة كمَنْ يكفر بالله واليوم الآخر، فكأنَّهم حملوا الآية على كفر النعمة لا على كفر الدين، وهو أيضاً ضعيف؛ لأنَّ لفظ الكفر إذا أُطلق انصرف إلى الكفر فى الدين، مشيرا إلى أن ابن الأنبارى قال: يجوز أن يكون المعنى «ومَنْ لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلاً يضاهى أفعال الكفار، ويشبه من أجل ذلك الكافرين»، وهذا ضعيف أيضاً؛ لأنَّه عدو لعن الظاهر.
وهناك قول عبد العزيز بن يحيى الكنانى: قوله ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ﴾ معناه: مَنْ أتى بضد حكم الله تعالى فى كل ما أنزل الله، فأولئك هم الكافرون، وهذا حق؛ لأنَّ الكافر هو الذى أتى بضد حكم الله تعالى فى كل ما أنزل الله، أمَّا الفاسق، فإنَّه لم يأت بضد حكم الله إلاّ فى القليل، وهو العمل، أمَّا فى الاعتقاد والإقرار فهو موافق، وهذا أيضاً ضعيف؛ لأنَّه لو كانت هذه الآية وعيداً مخصوصاً بمَنْ خالف حكم الله تعالى فى كل ما أنزل الله تعالى لم يتناول هذا الوعيد اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله فى الرجم، وأجمع المفسرون على أنَّ هذا الوعيد يتناول اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله تعالى فى واقعة الرجم، فيدل على سقوط هذا الجواب.
وبناء على ما سبق واستدلالات أخرى يقول العوارى: إن المراد بالآية الكريمة «ومن لم يحكم بما أنزل الله» هم اليهود خاصة، وأن الدليل على ذلك يتمثل فى سبب النزول، وسياق الآية، مشيرا إلى أنه فيما يتعلق بسبب النزول، فقد صحت الأحاديث بأنَّ هذه الآية نزلت بسبب حادثة زنا وقعت فى اليهود، فغيَّروا فيها حكم الله، وهو الرجم - الذى أنزله عليهم فى التوراة، وكانوا يريدون أن يحكم لهم النبى ﷺ بغيره.
وأمَّا سياق الآية، فإنَّ الآية من سورة المائدة، وجل حديث هذه السورة عن أهل الكتاب خاصة اليهود، كما أنَّ سباق الآية، ولحاقها عن اليهود، فالسباق قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾، واللحاق قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾.
ويخلص قائلا: من هنا نعلم أنَّ الآية فى اليهود، وقد حكم الله عليهم بالكفر؛ لأنَّهم رفضوا حكمه تعالى بالرجم للزانيين فى التوراة، وحكموا أهواءهم، فإن قيل: إذا كانت الآية فى اليهود، فهل تنطبق على غيرهم من أهل الشرائع الأخرى إذا صنعوا صنيعهم، فحكموا بغير ما أنزل الله؟
الجواب: قال فريق من العلماء: حكم غير اليهود فى ذلك كحكم اليهود؛ لأنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولأنَّ شرع مَنْ قبلنا شرع لنا ما لم يرد فى شرعنا ما يخالفه.
وقال فريق آخر: هذا الحكم خاص باليهود، ويطلب حكم غيرهم من نص آخر، أو بطريق القياس عليهم، وأيًّا ما كان، فإنَّ الآية ليست نصًا فى تكفير المسلمين إذا لم يحكموا بغير ما أنزل الله، وبالتالى لا تصلح دليلًا؛ لأنَّ الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال، أى لا يصلح حجة على المدعى، وهو هنا: الحكم بكفر المسلم إذا لم يحكم بما أنزل الله، فالدليل الظنى لا يقبل فى العقائد إثباتًا أو نفيًا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة