"إسرائيل لها الحق المطلق فى الدفاع عن نفسها".. هكذا قال الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، أثناء المؤتمر الصحفى المشترك، الذى عقده مع رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، فى واشنطن، يوم الإثنين الماضى، فى تصريح متزامن مع القصف الإسرائيلى على قطاع غزة، والذى جاء فى أعقاب سقوط صاروخ على تل أبيب فى نفس اليوم، أدى إلى إصابة 7 أشخاص، إلا أن التصريح الأمريكى ربما لم يقتصر فى جوهره على اشتباك الدولة العبرية مع غزة، وإنما يحمل فى طياته أبعادا أخرى، خاصة وأنه جاء مع قرار الاعتراف الأمريكى بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان السورية المحتلة.
التصريح الأمريكى يعد بمثابة ضوء أخضر للحكومة الإسرائيلية لاستخدام قوتها العسكرية، ليس فقط فى غزة، وإنما لدحض الوجود الإيرانى على الأراضى السورية، والذى تعتبره إسرائيل تهديدا وجوديا لها، عبر إضفاء الشرعية على أى هجوم تقوم به فى الجولان، على اعتبار أنها أصبحت جزءا من أراضيها، وهو ما يمثل تحديا صارخا للهيمنة الروسية على الأوضاع فى سوريا، منذ بداية وجودها العسكرى هناك فى عام 2015، وتنامى نفوذها فى الشرق الأوسط وقضاياه بشكل عام، منذ ذلك الحين.
ضم الأراضى.. خطوة ترامب ليست سابقة فى الصراع الأمريكى الروسى
ولعل سياسة "ضم الأراضى" ليست سابقة فى صراع النفوذ المحتدم بين روسيا والولايات المتحدة، حيث بادرت موسكو إلى اتخاذ خطوات مشابهة من قبل فى السنوات الماضية، عندما تحركت واشنطن لبسط هيمنتها على مناطق تمثل أهمية كبيرة للجانب الروسى، ففى عام 2014، عندما تحركت إدارة أوباما، نحو تطبيق نظرية "الفوضى" فى أوكرانيا للإطاحة بالرئيس فيكتور يانكوفيتش، والمعروف بموالاته لموسكو، بينما كان الرد الروسى بإعلان ضم شبه جزيرة القرم إلى أراضيها.
الجيش الروسى بالقرم
وقبل ذلك، قامت روسيا بتقديم الدعم العسكرى للانفصاليين فى إقليم أوسيتيا الجنوبية، لمجابهة الاجتياح الجورجى، فى عام 2008، فيما يعرف بحرب "الأيام الخمسة"، لتقدم بعد ذلك دعمها السياسى لعملية انفصال الإقليم عن سيادة جورجيا، والاعتراف به كدولة مستقلة، وهو ما يعد بمثابة تكريسا لما يمكننا تسميته بـ"إعادة تشكيل الحدود الدولية" فى إدارة صراع النفوذ بين موسكو وواشنطن.
فعلى الرغم من الصبغة الديمقراطية التى أضفتها الحكومة الروسية على قرارتها، سواء فى القرم عبر إجراء استفتاء، أو أوسيتيا الجنوبية، عبر الاستجابة للانفصاليين الذين يشكلون أغلبية سكان الإقليم، إلا أن الخطوات الروسية كانت تحمل أبعادا أخرى، أهمها تقديم رسالة لواشنطن والعالم، مفادها أن المساعى الأمريكية فى تقويض نفوذ روسيا فى منطقة تمثل عمقا استراتيجيا لها، لن تؤتى ثمارها، وأن الحكومة الروسية هى الأقدر على فرض كلمتها فى مناطق نفوذها، بالرغم من تنصيب رئيس موالى لأمريكا، وهو الرئيس الأوكرانى الحالى بترو بورشينكو، أو محاولة مضايقتها عبر توسيع الناتو فى جورجيا، وهى التحركات التى كانت بمثابة صفعات قوية للإدارتين الأمريكيتين السابقتين، واللتين فشلتا بجانب حلفائهما الأوروبيين، فى إثناء موسكو عن الخطوات التى اتخذتها عبر العقوبات.
ما وراء القرار.. أمريكا مازالت صاحبة اليد العليا بالمنطقة
وهنا يحمل القرار الأمريكى بضم الجولان السورى إلى إسرائيل فى طياته الكثير من الأبعاد، والتى ترتبط فى جزء منها بالداخل الأمريكى، فى ظل رغبة الرئيس دونالد ترامب فى الفوز بدعم اليهود الأمريكيين، بالإضافة إلى انحيازه البالغ لإسرائيل منذ بداية حقبته، إلا أنه يرتبط كذلك بحرب النفوذ التى يخوضها مع موسكو فى المرحلة الراهنة فى العديد من مناطق العالم، وعلى رأسها منطقة الشرق الأوسط، وذلك بعدما نجحت الإدارة الروسية فى الدخول بقوة إلى قضايا المنطقة عبر البوابة السورية، منذ عام 2015، من خلال تدخلها العسكرى للقضاء على الميليشيات الإرهابية، والتى هادنتها واشنطن لسنوات، وهو الأمر الذى ساهم فى مزاحمة روسية، ليس فقط للدور الذى تلعبه واشنطن فى المنطقة، ولكن أيضا فى ثقة القوى الرئيسية فى المنطقة فى الطرف الروسى، ومن بينهم عدد من حلفاء واشنطن.
ترامب يسعى لمزاحمة النفوذ الروسى فى سوريا
الرسالة الأمريكية من وراء قرار ضم الجولان إلى إسرائيل، والتى تمثل الحليف المدلل لواشنطن فى منطقة الشرق الأوسط، لا تختلف كثيرا عن رسالة موسكو من وراء خطواتها فى أوكرانيا وجورجيا، لتدور فى مجملها حول بقاء مكانة واشنطن باعتبارها القوى الأكثر نفوذا فى المنطقة بأسرها، والأكثر قدرة على إعادة تشكيلها من جديد، خاصة فى سوريا، والتى باتت موسكو صاحبة اليد العليا بها، منذ سنوات، سواء عسكريا، عبر الوجود العسكرى الروسى فى الأراضى السورية والذى همش الدور الذى تلعبه قوات التحالف الدولى بقيادة واشنطن، أو دبلوماسيا عبر الدور القيادى الذى تقوم به موسكو لإنهاء حالة عدم الاستقرار هناك، تحت مظلة أستانا، والتى نجحت بالفعل فى تقويض دور الغرب بقيادة أمريكا فى حل الأزمة السياسية، بالإضافة إلى نجاحها فى البقاء على الرئيس السورى بشار الأسد فى السلطة.
توقيت القرار.. الجيش الإسرائيلى بديلا للقوات الأمريكية فى سوريا
ويمثل توقيت الخطوة الأمريكية بضم الجولان، فى أعقاب قرار سابق، اتخذه ترامب، بالانسحاب العسكرى من سوريا، فى جوهره مؤشرا على تغيير الاستراتيجية الأمريكية، التى طالما اعتمدتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ليس فقط لدعم نفوذ واشنطن، ولكن أيضا لتقديم الحماية للحلفاء، وفى القلب منهم الدولة العبرية، إلا أن إدارة ترامب اتجهت نحو اتخاذ منحى أخر، يقوم على حماية الحلفاء لأنفسهم، بينما تدعمهم واشنطن عبر غطاء سياسى، يضفى قدرا من الشرعية على جنوحهم العسكرى، وهو ما يبدو واضحا فى تصريحات ترامب، المتزامنة مع القصف الإسرائيلى لقطاع غزة.
ترامب يسعى للعودة إلى سوريا على ظهر دبابة إسرائيلية
وهنا تتجلى أبعاد الصفقة الأمريكية الإسرائيلية بصورة كبيرة، حيث يصبح الوجود العسكرى الإسرائيلى فى الجولان، بديلا للقوات الأمريكية المقرر انسحابها من سوريا، بينما تقدم الإدارة الأمريكية خدماتها السياسية للدولة العبرية فى المقابل، فى إطار من المصالح المتبادلة بين الجانبين، حيث يبقى الحفاظ على نفوذ واشنطن فى سوريا مصلحة إسرائيلية فى الأساس، لتحقيق قدر من التوازن، حتى لا تبقى الدولة العبرية فى مواجهة روسيا وحليفها الإيرانى وحدها.
وبالتالى فإن قوة الحلفاء تبقى الخلاف الرئيسى بين مغامرات روسيا فى منطقتها، والخطوة الأمريكية فى الجولان، حيث أن قوة الجيش الإسرائيلى، الذى حظى بدعم واشنطن لعقود طويلة من الزمن، يقدم ميزة كبيرة لإدارة ترامب، خلافا لحالة بوتين فى أوسيتيا الجنوبية، والتى تبقى غير مؤهلة للقيام بدور لحماية نفسها، وبالتالى فلن تكون قادرة على حماية النفوذ الأمريكى، كما أن القرم أصبحت جزءا من الأراضى الروسية، وبالتالى أصبحت حمايتها مسئولية روسية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة