الصحافة مهنة البحث عن المتاعب لدى المبدعين والحالمين بوطن يتمتع بالحرية، وهى عمل من يقدرون قيمة الكلمة ويعرفون تأثيرها الكبير على الناس، لذا لابد أن يتميز الصحفيون بثقافاتهم العالية بفضل القراءة اليومية ومعرفة كل جديد، حتى يتسنى لهم أن يجدون فى الكتابة ملاذا ومأوى يعبرون من خلاله عن أحلامهم وآمالهم وأوجاعهم فى ذات الوقت.
ومما لاشك فيه أن مهمة الصحفى من أصعب المهمات؛ حيث تحيط به الكثير من المخاطر، كما أنها مهمة نبيلة، فالصحفى كالرقيب الذى يرصد الأحداث، ويكتشف الحقائق المذهلة لإيصالها إلى الرأى العام دون تشويه، وهو فى ذلك يواجه كل ما يعترض طريقه من مشكلات ومخاطر فى سبيل أداء دوره على أكمل وجه، ولتحقيق ما يصبو إليه من كشف الحقائق وخدمة الجمهور والرأى العام وأداء مهامه بشكل سليم.
ومن هنا لا بد للصحفى أن يكون واعيا ومثقّفا ولديه الخبرة الكافية لكتابة ما يحصل عليه من معلومات بطريقة حياديّة ونزيهة، وأن يأخذ بعين الاعتبار مصالح أمة بأكملها وليس مصالح جماعة معينة، فالصحفى يحمل على عاتقه تبعات قضيةً معينة يسعى من خلالها للوصول إلى الحقائق، ومن ثم يجب عليه أن يحافظ على شروط مهنته ويتبعها، كما يجب عليه أن يلتزم بالمبادئ العامة لها ومعاييرها.
كل ما سبق من شروط ينبغى أن تتوافر فى الصحفى الذى يمارس مهنته بشفافية وقدرة على كشف الحقائق وذلك عبر معايير وشروطا ملزمة لمن يمارس المهنة، و فى حدها الأدنى منه أن يكون حاصلا على مؤهل عال يكفل له مهمة البحث والتحليل التأمل، إذ يصبح سلاحه الأساسى هنا هو العلم، لأن ثمة ارتباط قوى بين الحرية والمسئولّة القائمة على العلم، فكلما اتّسعت دائرة الحرية ازداد حجم المسئولية الواقعة على الصحفى.
الكلام السابق فى مناسبة أن مهنة الصحافة حاليا أصبحت "مهنة من لا مهنة له"، الأمر الذى دفعنا نحن مجموعة من الصحفيين أعضاء نقابة الصحفيين من الغيورين على المهنة لإطلاق حملة "مش صحفى" منذ ستة أشهر تقريبا، فى سبيل التصدى لمواجهة بعض الظواهر السلبية التى أصبحت بمثابة بقع سوداء تلطخ ثوب الصحافة المصرية، والتى هى بالأساس تواجه تحديات البقاء فى ظل المنافسة الشرسة من وسائل الميديا الأخرى التى تزحف عليها يوميا.
ولا نبالغ إذا قلنا إن هنالك كيانات وهمية تمثل أكبر تهديدا على مهنة القلم حاليا، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر عدد من هذه النقابات منها "النقابة العامة للعاملين بوسائل الإعلام والتى تأسست عام 2011، وهى للأسف تمنح كارنيه مكتوب عليه "محرر إعلامي"، ونقابة الصحفيين الإلكترونيين، والتى أشهرت بوزارة القوى العاملة برقم 1797/2 لسنة 2011، ونقابة الصحفيين المصريين المستقلة مشهرة برقم 24195 فى يونيو 2011، ونقابة الإعلام الإلكترونى المصرية مسجلة رسميا بالاتحاد العام للنقابات المصرية فى أكتوبر 2011، ونقابة الإعلاميين المصريين، وتم إشهارها يوم 9 مارس 2011، ونقابة الإعلاميين المصريين المستقلة المشهرة برقم 95 لسنة 2012، ثم ظهرت نقابات فى الآونة الأخيرة منها نقابة الصحفيين والقنوات الفضائية".
وربما كان البيان الأول لمجلس نقابة الصحفيين الجديد بمثابة نقطة انطلاق قوية ومهمة تعكس الإحساس بخطورة الموقف فى التصدى لتلك الظواهر الوهمية، حيث جاءت بنوده الأربعة (من 3-6) لتشير إلى خطورة الموقف على النحو التالى:
3- تقديم بلاغات للنائب العام، ضد الكيانات النقابية الوهمية، التى تزعم منحها عضويات صحفية، والملاحقة القانونية لمنتحلى الصفة من أعضاء هذه الكيانات.
4- مخاطبة وزارة الداخلية، للتعميم على السجلات المدنية، بحظر وضع صفة صحفى فى بطاقة الرقم القومى، إلا بعد التأكد من ختم نقابة الصحفيين على استمارات البطاقة، وخاتم النسر من المجلس الأعلى للإعلام للزملاء المنتمين للصحف الخاصة والحزبية، والهيئة الوطنية للصحافة، للمنتمين بالصحف القومية، مع التأكيد على مطالعة، كارنيه عضوية النقابة.
5- مخاطبة الوزراء والمحافظين، بقصر اعتماد الصحفيين، على الزملاء النقابيين، والحذر من منتحلى الصفة من أعضاء الكيانات النقابية المزورة.
6- مخاطبة المجلس الأعلى للجامعات، للاستعلام عن شهادات أعضاء النقابة، والتحقق من سلامتها، لاتخاذ الإجراءات النقابية والقانونية، ضد من يثبت تزويره للمؤهل.
لقد جاء البيان بعدما انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعى خلال الأيام الماضية، صور مستندات وبطاقات شخصية مكتوب فى خانة الوظيفة "صحفى" دون أن يكون عضوا بنقابة الصحفيين، وفى هذا الصدد أعلن ضياء رشوان، نقيب الصحفيين، أن النقابة تعتزم التقدم ببلاغ للنائب العام ضد الكيانات النقابية الموازية، كما ستصدر بيانا تحذيريا بهذا الصدد لنشره وإذاعته فى كل الصحف ووسائل الإعلام المصرية.
وهنا لابد أن أشيد بموقف نقيب الصحفيين الذى أكد فى تصريح له: أن نص المادة 77 من الدستور واضح، إذ تنص على إنشاء نقابة واحدة فقط لكل مهنة، وذلك من خلال قانون يتم إصداره عن المجلس التشريعى، ولا يوجد لمهنة الصحافة إلا نقابة واحدة وفقًا لقانون رقم 76 لسنة 1970.
وتابع نقيب الصحفيين: "أى كيانات أخرى تحمل صفة الصحافة أو الإعلام وتوزع بطاقات تحمل صفة صحفى، يعاقب عليها القانون بالحبس سنة، كما أن انتحال الصفة والتزوير والنصب كلها جرائم تقع ضمن قانون العقوبات، وسيتم تضمينها فى البلاغ الذى ستتقدم به نقابة لصحفيين إلى النائب العام".
والواقع أن ظهور العشرات من الكيانات الوهمية الموازية لنقابة الصحفيين خلال الفترة الماضية، والتى تسىء لمهنة الصحافة ونقابة الصحفيين المصريين العريقة، عن طريق استخراج كارنيهات وهمية مقابل مبالغ مالية كبيرة، أصبحت ظاهرة سلبية تحتم علينا التصدى لها، خاصة بعد أن وصل الأمر إلى استخراج بطاقات الرقم القومى بمسمى "صحفى" لأشخاص غير مؤهلين، ولهذا على مجلس النقابة أن يقوم بتفعيل المواد (65)، (103)، (115) من قانون النقابة رقم 76 لسنة 1970 المتعلقة بانتحال صفة صحفى، والتى تعاقب بالسجن والغرامة كل من يمارس المهنة دون أن يكون مقيدًا بجداول النقابة.
التحريات أثبتت أن المتهمين بالعبث والتحايل على القانون قاموا بالإعلان على شبكة الإنترنت، ومخاطبة الجهات الحكومية والشركات والمؤسسات التجارية فى المحافظات المختلفة عن فتح باب العضوية بإحدى النقابات المزيفة، ومنح الأعضاء مميزات (وهمية) مقابل العضوية وإصدار بطاقات عضوية بأسماء العديد من الأشخاص منسوب صدورها (خلافا للحقيقة) إلى نقابة الصحفيين، واتضح من خلال تلك التحريات أن هناك نوعا من الاحتيال على العديد من المواطنين والاستيلاء على مبالغ مالية منهم تتراوح ما بين ( 1200 و3000 جنيه) عن كل اشتراك عضوية.
لقد باتت هذه القضية واقعاً أليماً لا نستطع إنكاره، بل إنه يضع الجماعة الصحفية ممثلة فى نقابتها وجمعيتها العمومية كلها فى محك اختبار حقيقى للحفاظ على ماتبقى من المهنة، وقبلها أجهزة الدولة التى تنفذ القانون وتُفعل الدستور، وعدم مواجهتها بالشكل الجاد والفعال، يعد جريمة فى حق المهنة، خاصة بعد أن نجح أصحاب هذه النقابات الوهمية فى النصب على المسئولين والحصول على مكاسب باسم الأعضاء المزيفين، فضلا عن بيع الكارنيهات بدعوى رسوم اشتراك وأشياء أخرى كثيرة فتحت الباب على مصراعيه أمام كيانات موازية تنتحل الصفة.
ولعل انتحال الصفة والتزوير والنصب بهذه الكارنيهات المضروبة كلها جرائم تقع ضمن قانون العقوبات، لكن للأسف هذه الكيانات استفلحت وأصبحت مثل السرطان فى جسد المهنة، ومن هنا فقد آن الأوان لاستئصالها حتى لا ندمر ما تبقى من آداب تلك المهنة المقدسة، ويبقى على كل الجهات الرسمية أن توقف التعامل مع كل من يزاول مهنة الصحفى، وهو غير مقيد بنقابة الصحفيين، أو حتى يمارسون المهنة تحت التمرين فى صحف معتمدة بالنقابة وفق القانون.
صحيح أن ما فعله نقيب الصحفيين بتقديم بلاغ للنائب العام ضد هذه الكيانات الوهمية خطوة ربما تكون قد تأخرت كثيرا فى مواجهة هذه القضية التى باتت بالفعل تهدد المهنة وتجعل مدعى المهنة فى مكانة واحدة مع أصحابها الحقيقيين، خاصة فى ظل واقع مرير يشير إلى أنه لدينا على الساحة نحو 24 نقابة وهمية على الأقل، تتخذ مسميات مختلفة ومزيفة للنصب وجمع الأموال بطرق غير مشروعة، ولابد من مساءلة هؤلاء وفقا للقانون، والأسوأ من كل ذلك أن هؤلاء انتشروا بشكل مخيف ويبتزون أصحاب الأعمال فى سائر المحافظات، بل والهيئات والمصالح من خلال مدونات أطلقوا عليها مواقع إعلامية، وكلها تحت "بير السلم" وغير مرخصة وتمارس صحافة رديئة.
ومن الآن فصاعد علينا جميعا فى إطار تعزيز دور حملة "مش صحفى":
- توسيع قاعدة المؤسسين بضم بعض مندوبى الصحف "قومية - مستقلة" النشيطين، على أن يقوم المندوب بإنشاء مرصد لمتابعة حالات امتهان الصحافة من جانب غير النقابيين.
- إنشاء مرصد مركزى يكون مقره أحد غرف النقابة يقوم برصد دقيق لحالات ممارسة المهنة من غير النقابيين "تحت التمرين – مشتغلين".
- حصر شامل لأرقام عدد الصحف الصادرة بتصريح أجنبى من "لندن - قبرص" وذلك بهدف المتابعة لمن يعملون بداخلها من غير النقابيين.
- إعداد صيغة لشكل برتوكول تعاون بين الحملة والسادة "مجلس الوزارة والوزراء والمحافظين" لتطبيق اتفاقية عدم السماح بدخول الوزارت والمحافظات والهيئات الحكومية لغير العاملين من الصحفيين الذين ينتمون للنقابة.
- قصر التدريب على المراكز والمعاهد المعتمدة "الأهرام - الأخبار الجمهورية - وكالة أنباء الشرق الأوسط، نقابة الصحفيين، كلية الإعلام، أقسام الإعلام فى الجامعات المصرية المختلفة"، مع عدم السماح لمراكز خاصة بتقديم برامج تدريبية بمقابل مادى، خاصة أنها عادة ما تكون مرفقة بشهادة معتمدة من الجهة المنظمة يستغلها البعض فى العمل فى صحف وهمية "بير سلم".
- إصدار دليل إرشادى من جانب النقابة، يصدر مرة فى السنة يتضمن طريقة التعامل مع الصحفيين وفقا لقواعد النقابة، والقوانين واللوائح المنظمة لذلك، على أن يتم تسليمه للمؤسسات العامة والخاصة وجمعيات رجال الأعمال، بحيث يمنع عمليات الابتزاز التى يمارسها البعض بدعوى أنه صحفى.
عندئذ فقط يمكننا محاصرة تلك الكيانات الوهمية ومنتحلى صفة صحفى فى سبيل إزالة تلك البقع السوداء من ثوب الصحافة المصرية، والتى تسىء لمهنة تعد من أقدس المهن على وجه البسيطة، خاصة أن الصحافة العربية الورقية تواجه لحظة تاريخية بالغة الحرج، من حيث نوعية التحديات الموروثة والمتغيرة التى باتت تمس شروط وجودها ومستقبل حياتها الوظيفية والمهنية على نحو غير مسبوق، كما أنه لا يجوز بأى حال من الأحوال استخدام التكنولوجيا الرقمية كأداة للوهم وتضليل المتلقى للخبر من خلال الخلط بين الحقيقة وما هوغير حقيقى، بما يؤدى إلى انهيار مصداقية الصحافة، وتغير رؤية الناس للأحداث و يسهم فى تزوير التاريخ، وتزييف الوعى.
كما أن الصحافة الورقية تحديا آخر حيث أصبحت حاليا فى وضعية شديدة الخطورة فى ظل انعدام المعايير الصحيحة فى اختيار رؤساء التحرير والكفاءة المهنية والإدارية والابتكار والإدارة الرشيدة، ونوعية تكوين الصحفيين على نحو مغاير لما ألفناه تاريخيا لمفهوم الصحفى وقواعد وتقاليد ومعايير المهنة ذاتها، وفى علاقتها بالأسواق السياسية والاجتماعية واللغوية والثقافية، فضلا عن الابتذال الذى ظهـر واضحا بجلاء فى انحدار المستوى العام للتحرير الصحفى إلى درك الركاكة والانحدار والتراجع الذى يسىء للمهنة والعاملين بها على حد سواء.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة