وها انا اعود مجددا لزيارة القاهرة، اشتاق طقسها واجواءها ، ولهجة أهلها ، ومساحات التباين فيها ، اشتاق المشي في شوارعها الخلفية وأنا أتأمل بقايا عهود وحقب ، قصور ومدارس ومساجد وطرقات عبرها ملوك وقادة وجيوش وعلماء ونبلاء وأدباء ومغنين ومهرجين، مدينة لا تُمَل ولا يكفيها الوقت لتراها كما يجب ، فإن أردت أن تراها لتعرفها حقا ، فاستحضر قلبك اولا، ثم اصطحب معك في سيرك ذاك أحد أبنائها العارفين بخفاياها وخباياها وأسرارها وبعدها انطلق ، وإلا فإنك ستسير فيها كسائح عابر جاء يلتقط صورا ليقول ذهبت ذات يوم للقاهرة ، وهنا يكفيك أن تشاهد فيلما عنها على اليوتيوب وتشتري صورا تذكارية من المتحف الوطني المصري !
القاهرة :فسيفساء التاريخ وعجائب الحضارة وتناقضات الإنسان : مئات المساجد والكنائس ، العشوائيات وبقايا قصور باشوات وأمراء تواروا في الزمن ، الأحياء القديمة ومدن الحداثة اللامعة ، المزارات والقلاع والموالد ، الشوارع التي تستظل بأسماء السلاطين والمماليك ، وبينما محمد علي باشا الألباني الذي أسس الدولة الحديثة في مصر يمتطي صهوة جواده وسط القاهرة متعاليا على كل شيء ، تتوارى اسطورة الحسين في مسجده المهيب خلف دموع المتبركين ودعواتهم وتوسلاتهم !نجيب محفوظ ترن ضحكاته في مقهى الحرافيش وفي مجلسه بفندق" شيبرد" الذي يبدو مهجورا اليوم ، ورمسيس الثاني يحرس محطته وميدانه بخلود الفراعنة المعهود ، بينما كليوباتره ملكة تحتفظ برأسها فاتنا عبر القرون ، اما السيدة زينب فتحيي مولدها كل عام بحلقات الذكر،ومهرجانات البهجة الملونة ، في المقاهي القديمة ينهدُّ التاريخ على المدى ، وفي الاسواق الحديثة ينزلق الزمن على زجاجها اللامع ،القاهرة حيث في كل خطوة تاريخ وعلى كل عتبة اسم فرعون او ملك او خليفة او قائد جيوش عظيم !
وحدها مصر جمعت كل اطياف الحضارة والميثولوجيا والسياسة والدين بسلام وامان طيلة قرون وقرون دون ان يسمع فيها قعقعة حروب اهليه او عبث صراعات طائفية ، فالمصريون متوضؤون بالوعي وعشق مصر بحكم التاريخ والولادة !
مصر التي يبتسم لك انسانها في احلك ظروفه راكضا يلبي لك ما تريد بكل خفة الروح واريحية ابن البلد الجدع ، مصر النيل العظيم والشمس الدافئة في عز الشتاء ، البلاد التي اخترعت الاديان واستدلت على التوحيد قبل كل الحضارات ، وأسست حضارة من الفراعنة والآلهة واساطير الخلود ومعابد التحنيط قبل ان يعرف ايا من البشر كل هذه المنظومة شديدة التغلغل في الذهنية الانسانية والمعاصرة !
وانا اتنقل في ارجاء المتحف المصري هالني التنوع والحجم المهول لمفردات الحضارة الفرعونية ، هالني دقة الصنعة والزخرفة وتوظيف الموارد المتاحة في انتاج التماثيل والمجسمات والادوات صغيرها وكبيرها ، الزينة بكل بساطتها وفخامتها ، الاثاث، المقابر والتوابيت ، حضارة زاخرة بكل شيء بدءا بخدم الفرعون وانتهاء بكهنته، اما الحضور الطاغي للثقافة الدينية بكل تجلياتها ورموزها فحدث ولا حرج !
لم تكن هناك الا اشياء نادرة لما له علاقة بالحياة الدنيوية ، وكأن ما سيطر عليهم كان حياة ما بعد البعث اكثر من الحياة التي عاشوعا برغم كل ما خلفوه وراءهم !
لقد بنيت الاهرامات الهائلة لتكون مقابر للملوك ، وقامت حضارة وادي الملوك لتمجيد المعابد ، اما ابوالهول فليس سوى رمز ديني يتكرر في كل العصور الفرعونية ، الحضارة التي تفردت بان صنعت لملوكها توابيت ومقابر افخم واعظم واقوى مما بنته لهم من قصور ، لذلك فليس غريبا ولا عجيبا هذا البعد الديني العميق في الشخصية المصرية ، وهذا الايمان بالدولة وسلطاتها ، ان هذا المصري البسيط الذي يعبر شوارع القاهرة لا ينوء كاهلة باعباء حياة صعبة وقاهرة ، بل ايضا بعبء من التاريخ لا يحمله الا انسان عظيم .
عدد الردود 0
بواسطة:
محاسن احمد
مؤثر
مقال مؤثر جدا ، وقلم اعتبره كمتابعة اضافة جميلة لليوم السابع المحترمة . ارجو ان يستمر العطاء . استمتعت بقراءة المقال
عدد الردود 0
بواسطة:
ashraf4760
مقال جميل
اجمل ما في المقال انه ينظر الى جوهر الحقيقة لا الى ظاهرها وكل ذلك بأسلوب رشيق لا تمل منه.