خرج الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، على العالم بقرار صادم فى مارس 2018، معلنًا فرض رسوم حمائية على واردات الولايات المتحدة من الصلب تام الإنتاج ومنتجاته شبه المُصنّعة.
وقتها واجهت ملايين الأطنان من البليت وبلاطات الصلب المحملة على مئات السفن الجارية فى عرض البحر مشكلات حقيقية، هددت رحلاتها التى لم تكتمل إلى وجهاتها النهائية، فسعى أصحابها والموردون فى دول المنشأ إلى استقطاب أسواق بديلة، والتضحية بنسبة غير قليلة من هوامش الربح المتوقعة، ودخل على الخط مستوردون من عدة دول، استغلوا الأزمة وضاربوا فى الأسعار ليحصلوا على تلك الكميات الضخمة بفاتورة ضئيلة للغاية. تمت الصفقة، وللأسف غرقت عديد من الأسواق الناشئة تحت موجة غامرة من تدفقات الصلب الهوجاء، بما يتجاوز طاقتها الاستيعابية، ويهدد صناعتها الوطنية، ويخترق ضوابط المنافسة العادلة.
منشأ الأزمة أن سوق الصلب العالمية تشهد إنتاج ما لا يقل عن مليار و600 مليون طن سنويًا، تحوز الصين وحدها قرابة نصف طاقة الإنتاج الإجمالية، وتملك فوائض زائدة على احتياجاتها ربما تتجاوز 400 مليون طن، وبإضافة أوكرانيا وتركيا والبرازيل والهند وعدد من كبار المنتجين، تتجاوز الفوائض حدود 600 مليون طن.
مع إغلاق الوجهة الأمريكية أو حصارها للتدفقات الخارجية بفرض 25% رسومًا إضافية على واردات الصلب ومشتقاته، ثم دخول دول الاتحاد الأوروبى على الخط بفرضها أعباء حمائية مماثلة، عززت الدول المنتجة من عملياتها التسويقية فى عدد من الأسواق البديلة، لكن ظلت هناك قرابة 190 مليون طن فوائض راكدة تبحث عن مستهلكين، وحتى لا تتوقف المصانع الضخمة فى دول المنشأ، ولتجنب تباطؤ وتيرة النمو وما يستتبعه من تراجع فى الاستثمارات وقدرة السوق على توليد مزيد من فرص العمل، وعوائد الدولة من الضرائب والرسوم وفواتير الطاقة والخدمات، كان أخف الضررين أن تبحث تلك الرواكد عن وجهات بديلة، حتى لو ضحّت بقدر من أرباحها. فأن تكسب أقل أفضل كثيرًا من أن تواجه شبح الخسارة واهتزاز السوق!
اضطربت الأسواق العالمية.. شعر المنتجون بالخطر، وتعكّرت مياه سوق الصلب بملايين الأطنان من الرواكد شبه الكاسدة، وقتها نشطت الحيتان بعدما استشعرت أن الفرصة باتت مواتية للاصطياد فى الماء العكر. وبالفعل ألقوا شباكهم وبدأت تدفقات الصلب تغرق مصر، وتدفقات الأموال تتراكم فى الحسابات البنكية.
بحسب مؤشرات رسمية صادرة عن وزارة الصناعة، ضمن تحقيقات موسعة غطت الفترة من أول 2017 حتى نهاية 2018، شهد العام الماضى وحده زيادة أكثر من 60% فى واردات الحديد، بواقع 30% فى النصف الأول، و30% خلال النصف الثانى من إجمالى الواردات بالزيادة الجديدة، بما يعنى فعليًا زيادة تقارب 40% فى النصف الثانى من العام، وكان من آثار تلك التضخمات المرعبة فى الأرقام أن زادت الحصة السوقية لنشاط الدرفلة أكثر من 10%، مقابل تراجع حصة المصانع المتكاملة أكثر من 20%، وتراكم مخزون بمئات الآلاف من الأطنان.
استشعرت الدولة الخطر أواخر العام 2017، فأصدر وزير الصناعة السابق، المهندس طارق قابيل، قرارًا بفرض رسوم حمائية على واردات حديد التسليح لمدة خمس سنوات، لكن الثغرة التى ربما لم يلحظها الوزير كانت قد بدأت فى التوسع، مع لجوء عدد من مُصنعى الحديد إلى تفكيك أو بيع مصانعهم العاملة بنظام الإنتاج المتكامل عبر 4 مراحل: اختزال الحديد، والصهر، وصب الصلب، وأخيرًا تشكيله أو درفلته، والاستعاضة عن تلك الأعمال الضخمة وكثيفة التكلفة بشراء خطوط قديمة ومتهالكة من مصانع درفلة بدائية فى عدد من دول آسيا وشرقى أوروبا، واستيراد البليت وبلاطات الصلب باعتبارها خامات أولية، وتنفيذ مرحلة التشكيل أو السبك والدرفلة محليًا، وطرح المنتج النهائى فى الأسواق بهوامش ربح عالية للغاية، لكنها أقل بنسبة ضئيلة من المنتج المحلى، الذى لا يستطيع النزول إلى ذلك المستوى من التسعير بسبب الأعباء الاستثمارية وتكلفة التشغيل التى يتحملها.
بحسب الطبيعة الفنية لنشاط الدرفلة، فإن تلك المصانع الصغيرة وعتيقة التكنولوجيا تستخدم أقل من 15% من العمالة لدى منافسيها فى المصانع المتكاملة «4 آلاف عامل فى قطاع الدرفلة مقابل 30 ألفًا تقريبًا فى المصانع المتكاملة»، وتستهلك 10% من الغاز الطبيعى والكهرباء والمياه، وتنفذ عملية إنتاجية واحدة سريعة ورخيصة تضيف أقل من 25% من القيمة المضافة التى تتحملها المصانع المتكاملة، وبالتبعية تتحمل أعباء أقل فيما يخص الضرائب الإجمالية وضرائب القيمة المضافة وتكلفة العمالة والأعباء التأمينية. ورغم فداحة الصورة ظلت تلك الثغرة مفتوحة والأمور قائمة بالوتيرة نفسها، حتى ضرب التداعى جدران المصانع المتكاملة وباتت لا تقوى على مواصلة العمل مع تراكم المخزون وتنامى نزيف الخسائر، وهنا التفتت وزارة الصناعة للأمر وأخذت قرارًا جديًا، لحصار الحيتان بالقانون، وإغلاق ثغرة الاصطياد فى الماء العكر.
تحرك وزارة الصناعة الجاد تمثّل فى قرار الوزير عمرو نصار، بفرض رسوم حمائية مؤقتة بواقع 15% على واردات البليت، و25% على حديد التسليح بصوره المختلفة. ولأن الأمر يمثل انحيازا مباشرا للصناعة الوطنية وضمان العدالة واستقرار أطر التنافسية النزيهة، وليس انحيازا لأفراد أو رغبة فى تحصيل عوائد من فريق السماسرة والمضاربين، قررت الحكومة توجيه حصيلة تلك الرسوم لصالح دعم الصادرات.
ما يتوفر من معلومات، حسب مصادر فنية فى قطاع الصلب وغرفة الصناعات المعدنية، يشير إلى أن إجمالى الاستهلاك المحلى من الصلب بمشتقاته 7.5 مليون طن، تنتج المصانع المتكاملة قرابة 7 ملايين طن منها بحسب بيانات الاتحاد الدولى للصلب، وتزاحمها استثمارات القطاع التحويلى عبر مصانع الدرفلة بأكثر من 4 ملايين طن بحسب مؤشرات تقديرية، وبالنظر إلى متوسط القيمة السوقية العالمية للصلب، التى تدور حول مستوى 700 دولار للطن فى صورته النهائية وبين 450 و500 دولار للبليت والبلاطات، فإن قيمة تلك الواردات تتراوح بين مليارين و3.6 مليار دولار، يحقق أصحابها أرباحًا بين 60 و70% فى المتوسط، وتتجاوز 100% وصولًا إلى 120% فى بعض الأحوال، ما يُعنى وفق قرار وزير الصناعة الأخير اقتطاع بين 200 و360 مليون دولار من أرباح فريق السماسرة والمضاربين المهولة. يمكن أن تقل قليلًا عن ذلك فى ضوء أن وزارة المالية ستطبق القرار وفق قائمة أسعار استرشادية يُعاد دراستها وتحديثها شهريًا، وبالنزول للأرقام والمؤشرات إلى مستوياتها الأدنى فإن عوائد تلك الرسوم لن تقل عن مليارين إلى 3 مليارات جنيه، فى وقت تشير فيه التقديرات الفنية إلى أن قطاع الدرفلة يحقق أرباحًا تتراوح بين 10 و15 مليار جنيه، ما يُعنى خسارة القطاع هامشًا ضئيلًا من أرباحه، لصالح ضمان استقرار الصناعة واستدامتها، وعدم خسارة قطاع ضخم يوظف 30 ألف عامل باستثمارات تتجاوز 100 مليار جنيه.
فى العام المالى 2017/ 2018 خصّصت الحكومة قرابة 2.6 مليار جنيه لصالح دعم الصادرات، زادتها فى العام التالى إلى 4 مليارات بواقع 2.5 مليار من الخزانة العامة و1.5 مليار تمويلًا ذاتيًا من صندوق دعم الصادرات، وفى العام المالى الجارى 2018/2019 اعتمدت الحكومة 6 مليارات جنيه لصالح تحفيز التصدير، ومع قرار وزارة المالية الأخير بتوجيه حصيلة الرسوم الحمائية المؤقتة على واردات الصلب للوجهة نفسها تقفز مخصصات دعم الصادرات بنسبة 50% دفعة واحدة، لتسجل 9 مليارات جنيه، تستفيد منها عمليًا آلاف الشركات العاملة فى القطاعات الصناعية والهندسية والزراعية، بما يقارب 70% من إجمالى سوق الأنشطة الصناعية والتحويلية، وبعمالة تتجاوز 60% من سوق العمل فى مصر.
القرار الأخير وأثره التنفيذى، يُعنى أننا إزاء خطوة جادة لمساندة الصناعة الوطنية فى وجه منافسة غير عادلة من الأسواق العالمية والسماسرة المحليين، وفى الوقت نفسه نتحرك على طريق تحفيز الاستثمارات المحلية بتعزيز قدراتها الإنتاجية وتنافسيتها الخارجية وتحفيز أنشطة التصدير وغزو الأسواق. ووفق الآثار العديدة المترتبة على تحركات وزارتى الصناعة والمالية الجادة فى التعامل مع محنة سوق الصلب، قد يكون غريبًا أن ينحاز سماسرة القطاع والمضاربون على رواكد الصلب العالمية، ودرافيل «ورش الدرفلة» إلى مصالحهم الخاصة، على حساب المصلحة العامة والمؤشرات الكلية للاقتصاد والنمو والقيمة المضافة وجهود تقوية سوق العمل وشدّ عودها لاستيعاب مزيد من الوافدين الجدد.
هذا الانحياز الغريب يُترجمه البعض للأسف فى صورة تحركات هوجاء وانفعالية لا تبدو نظيفة فى وجهها العام، ولا بريئة من الهوى والغرض والمصالح الشخصية، وحتى لا تنجح تلك الأهواء فى ابتزاز الحكومة أو حصار جهودها لضبط الأسواق، يجب أن نساند قرار الصناعة وتوجيه المالية لحصيلة موارده لصالح دعم الصادرات، ونضع الصورة كاملة أمام عموم المستثمرين، وأمام المستهلكين النهائيين الذين يعانون من آثار تلك الممارسات، حتى نضمن سوقًا نظيفة وعادلة، ونموًا حقيقيًا ومستدامًا، ولا نسقط فى مستنقعات «درافيل الدرفلة».