بدأ - اليوم الجمعة - المصريون فى الخارج عملية الإدلاء بأصواتهم على التعديلات الدستورية والتى تستمر ليوم الأحد المقبل، على أن يبدأ تصويت المصريين فى الداخل ابتداء من غد السبت وحتى الإثنين، وسواء كنت مع هذه التعديلات أو ضدها أو لم تقرر موقفك بعد من النزول للتصويت عليها، دعنى أوضح لك بعض الحقائق التى لا ينكرها واقع مصر الجديد، وهى حقائق ووقائع لا ينكرها سوى أعمى أو مغرض أو متآمر أو حاقد أو جاهل أو فاشل أو مدعى، وهذه الحقائق هى من بنيت عليها موقفى عن قناعة تامة بضرورة النزول والتصويت على هذه التعديلات، فمصر من وجهة نظرى لا تزال تمر بمرحلة انتقالية استثنائية، نسعى فيها لترسيخ قواعد الجمهورية الثانية، فإن كان بناء الجمهورية الأولى فى مصر أعقب الإطاحة بالملكية يوليو ١٩٥٢، فإن بناء الجمهورية الثانية لا يزال مستمرا من يوليو ٢٠١٣ لإزالة آثار كل مسببات الضعف التى ألمت بمصر خلال العقود الماضية، وإن كان واقع مصر الحالى والحفاظ على الدولة وواقع الإقليم يصطدم مع نصوص دستورية، فلا أرى أى مانع من تعديلها طالما أننا كما ذكرت لا نزال نعيش فى ظرف استثنائى، لا تصلح معه قواعد اعتيادية متعارف عليها لإدارة الحكم.
*أولا - حزام النار المحيط بمصر:
المتابع لوضع مصر على خريطة الوطن العربى وتحديدا مع جيرانها، سيرى أنها محاطة بحزام من النار، بحزام من الاضطرابات والقلاقل وعدم الاستقرار، وهو وضع شئت أو أبيت يؤثر عليك فى مصر ويمثل تهديدا حقيقيا لمصالحك وأمنك القومى، وهو وضع يدفعك لتتفاعل معه وتكون جزءا منه، فعلى حدودك الغربية التى تمتد لـ١٢٠٠ كيلو متر مع ليبيا، نشهد عملية صراعا وجوديا بين الجيش الوطنى الليبى وبين ميليشيا إرهابية مسلحة تسيطر على العاصمة الليبية طرابلس، وهى مليشيا تتلقى دعما من عواصم إقليمية ودولية كلندن وروما وأنقرة والدوحة، لذا فدعم مصر للجيش الليبى فى عملية تحرير طرابلس والعمل بعدها مع القوى الدولية والإقليمية على إعادة بناء ليبيا فرض عين، للحفاظ على مصالحنا وأمننا القومى، فاستقرار الجار يعنى استقرارنا، ووجود حكومة ليبية متصالحة مع مصر ومدركة لأهمية شراكة القاهرة وطرابلس سيعود بالنفع على الدولتين.
أما حدودنا الجنوبية، فتشهد السودان عملية تحول كبيرة بعد الإطاحة بحكم "البشير" هناك الذى استمر لثلاثين عاما، لذا فما تمثله السودان من عمق استراتيجى لمصر، فإن استقرارها وضمان عملية إنتقال سلس للسلطة هناك وعدم إنجراف السودان للفوضى، يمثل هدفا حيويا لمصر، لك أن تعلم مثلا لا قدر الله لو تدهورت أوضاع السودان وساءت كيف سيؤثر ذلك على أمن مصر القومى، وعليه لا تتعجب من الدعم القوى الذى أعلنته الإدارة السياسية المصرية للسلطة الانتقالية فى السودان، وعملها مع الرياض وأبوظبى على تقديم كل سبل الدعم للخرطوم لتعبر هذه المرحلة الحرجة من تاريخها، لنخرج بسودان جديد منفتح ومتصالح مع جيرانه والإقليم والعالم، بما يعود بالخير على الشعب السودانى.
حدودنا الشرقية مع قطاع غزة، فرضت عليك الجغرافيا والتاريخ بأن تمثل هذه الحدود مصدر خطر مستمر على أمنك القومى، فإن كانت الإدارة السياسية نجحت فى عمل تغيير عملى فى اتفاقية كامب ديفيد خاصة فى حجم وعدد القوات المسلحة ونوعية المعدات فى المنطقة "ج" فى سيناء لمحاربة التنظيمات الإرهابية، فإن واقع غرة بشكل خاص والقضية الفلسطينية بشكل عام، سيظل يمثل عبئا على الأمن القومى المصرى، فى ظل انقسام فلسطينى قاتل، ترفض أطرافه تنحية خلافاتهم والاتجاه للوحدة، لمواجهة المخاطر التى تتعرض لها القضية الفلسطينية، والذى استفادت منه إسرائيل منذ سيطرة حماس على قطاع غرة فى ٢٠٠٧.
أما سوريا والعراق فى الشمال الشرقى لمصر، فلا تزال هاتان الدولتان تشهدان مرحلة التخلص من الفوضى وعدم الاستقرار، وما شهدوه من أحداث وتقلبات خلال السنوات الماضية، فرض على إدارة الرئيس عبد الفتاح السيسى الانخراط والتفاعل مع المشهد هناك، وتقديم كل الدعم لتستعيد هاتان الدولتان القدرة على الاستمرار وإعادة البناء، فالقاهرة كانت أول الدول العربية التى عززت علاقاتها وتعاونها مع الحكام الجدد فى العراق، مدفوعة بإدراك حقيقى لأهمية أن يظل العراق جزءا من المكون العربى، لا أن نتركه يقع فريسة للنفوذ والتدخلات الإيرانية، وهو ما أدركته أيضا الرياض، فحذت حذو القاهرة ونسجت علاقات جديدة مع بغداد متجاوزة واقع الصراع الطائفى فى المنطقة.
نفس الأمر فيما يتعلق بسوريا، فمصر الدولة صمدت من ٢٠١٤ على موقفها من ضرورة الحفاظ على الدولة والجيش السورى، وأن الخطر الأكبر هناك هو التنظيمات الإرهابية، وهو موقف كانت ترفضه قوى كبرى وحلفاء إقليميين لمصر، لتثبت الشهور والسنوات أن رؤية القاهرة كانت الأفضل، وهى رؤية تبنتها حتى الدول التى كانت تضغط علينا منذ سنوات لتغييرها.
فى الجنوب الشرقى لمصر على البحر الأحمر، يشهد اليمن مواجهات مع ميليشيا مسلحة مدعومة من طهران، وبين قوات الجيش اليمنى وقوات التحالف العربى، وهى معركة تؤثر بشكل كبير على محددات الأمن القومى المصرى فى البحر الأحمر، الأمر الذى دفع مصر لتأمين باب المندب، لضمان ألا تتأثر حركة الملاحة فى قناة السويس، التى تمثل شريان حيوى واستراتيجى للاقتصاد المصرى، وهو ما دفع الإدارة السياسية فى مصر فى يناير ٢٠١٧ لتدشين الأسطول الجنوبى المصرى فى مدينة سفاجا بمحافظة البحر الأحمر، وسيظل التهديد موجود لحين استقرار الأوضاع فى اليمن لما تمثله أيضا من خطورة على أمن السعودية التى تعد عمق استراتيجى للقاهرة، وأى يخطر يهددها هو بمثابة تهديد أيضا لمصالحنا.
*ثانيا - تنظيمات الإسلام السياسى:
سقوط مشروع الإخوان المسلمين فى مصر كان بمثابة البداية الحقيقية لتعى شعوب ودوّل الإقليم، خطورة هذا المشروع على الوجود العربى، أدركت أن تحقيق التنمية الحقيقية والديمقراطية السليمة، لن يتحقق دون العمل سويا على بتر هذا المرض السرطانى من مجتمعاتنا العربية والإسلامية، والعمل سويا على إصلاح الخطاب الدينى وتنقية تراثنا الدينى من كل الأفكار التى تدعو للعنف والتطرف والعنصرية، وتخلق معاداة مع كل شعوب الأرض التى لا تدين بالإسلام، وهذا ما تدركه مصر الآن وتعمل عليه بكل السبل، سواء على المستوى الداخلى أو الخارجى، فالشعب المصرى وباقى الشعوب العربية من حقهم أن يكونوا جزءا من هذا العالم الذى ينعم بالاستقرار والرخاء والتنمية.
ومن يفتى ويقارن أوضاع مصر بأوضاع دول أمريكا اللاتينية خاصة خلال حقبة حكم بيونشيه لتشيلى، أقول له المقارنة خاطئة، فهذه الدول لم لا يوجد بها تنظيمات مسيحية مثلا تسعى للحكم، هذه الدول انحصرت فيها الاختيار بين جبهتين، جبهة تسعى لفرض نظام حكم ديكتاتورى، وجبهة رأت أن دول أمريكا اللاتينية ينطبق عليها كل قواعد ومؤهلات النظم الديمقراطية الغربية، أما نحن فى المنطقة العربية، فهناك اختيار بين الانحياز لوجود دولة ونظام حكم رشيد، وبين حكم تنظيمات إسلامية متطرفة لن ننعم معها إلا بالخراب والفوضى، حتى النموذج التركى الذى قدموه على أنه النموذج والمثل للتطبيق، أقول لهم ما رأيكم من سيطرة حزب العدالة والتنمية الإخوانى على تركيا؟، ما رأيكم فى خطة التوغل والتمكين التى يقوم بها أردوغان على مدى ١٧ عاما لتغيير هوية وواقع تركيا المدنى، ما رأيكم فى سلم الديمقراطية التى يصعد من خلاله الإسلاميين للحكم ثم بعدها ينقلبون عليه بفرض مشروعهم وأليات جديدة تتماشى مع أهدافهم فى السيطرة والاستمرار.
*ثالثا - الإقتصاد المصرى:
لن أتحدث عن حجم التنمية والمشروعات التى تشهدها مصر من ٢٠١٤ حتى الآن، ولن أتطرق للإشادات المتعددة من المؤسسات الدولية بالاقتصاد المصرى حاليا والتوقعات بأن يكون من أكبر ٧ اقتصاديات العالم فى ٢٠٣٠، لكن سأركز فقط على القرار التاريخى الذى اتخذته الإدارة السياسية فى مصر فى نوفمبر ٢٠١٦، بنقل الاقتصاد المصرى لمرحلة التحرر الكامل، وإدخاله ليكون جزءا من الاقتصاد العالمى وفقا لقواعد السوق، وهى مرحلة خشى السادات ومبارك الاستمرار فيها أو الدخول فيها، رغم أننا لو كنّا بدأنا فيها منذ ٤٠ عاما، لكانت أوضاع مصر الاقتصادية تضاهى أوضاع كوريا الجنوبية وسنغافورة، وكان السبب غياب الإرادة السياسية، التى لم تتوفر لحاكم مصرى خلال هذه العقود، لتحرير اقتصاد مصر وإزالة التشوهات التى أصابته، فانعكس على تراجع مصر واستمرار اعتمادها على المساعدات الخارجية، لذا فيقينى أن أى حاكم لمصر حاليا غير السيسى حتى لو من خلفية عسكرية سوف يخضع لقواعد السياسة المتعارف عليها وسيفضل الحفاظ على شعبيته وسيتراجع عن كل القرارات والخطوات التى تم اتخاذها لإصلاح الاقتصاد المصرى، وسيتراجع عن عدد من المشاريع القومية التى بدأنا نرى مدى أهميتها ودورها فى تغيير وجه مصر، وأعطتنا مؤشرات ودلائل أن مصر بمقدورها بالفعل كما تقول التقارير الدولية أن تكون من أكبر وأقوى ٧ اقتصاديات فى العالم فى ٢٠٣٠، بما سينعكس وقتها على أحوال المصريين الاقتصادية والمعيشية سواء فى الصحة والتعليم ومستوى الدخل وجودة الحياة.
*رابعا - القوى السياسية المصرية:
القوى السياسية المصرية سواء الليبرالية أو اليسارية، عليهم أن يراجعوا أنفسهم ويحدثوا تغيير جذرى فى تحليلاتهم لواقع مصر والإقليم الذى نعيش فيه، واقع معقد يؤثر بشكل مباشر على مستقبلنا جميعا، وعليهم مجاراة الدولة والتفاعل معها قولا وعملا فى اعتبار تنظيم الإخوان وكل تنظيمات الإسلام السياسى ستظل تمثل خطرا على المجتمع المصرى يجب مواجهته والتخلص منه، عليهم ممارسة السياسة قولا وفعلا عبر برامج حقيقية تقترب من المواطن ولا تصطدم مع ثوابت الدولة، عليهم الاستعداد للانتخابات المحلية والبرلمانية القادمة، عليهم الاستعداد لانتخابات الرئاسة القادمة ٢٠٢٤، ويقدموا نماذج واعية وقيادية للمجتمع المصرى، متصالحة مع عقيدة الدولة المصرية، عليهم الابتعاد عن الصراعات الشخصية داخل أحزابهم وأن يطبقوا الديمقراطية على أنفسهم قبل المطالبة بتطبيقها، عليهم أن يعوا أن المعارضة لا تعنى الاعتراض على كل شىء ولا تعنى ألا تكون جزءا من رؤية كبيرة للإصلاح تقدمها أى إدارة سياسية حاكمة، عليهم أن يكونوا شريك حقيقى فى بناء الجمهورية الثانية فى مصر.