يأتى إقرار البرلمان المصرى بالتعديلات الدستورية التى تشمل تمديد فترة ولاية الرئيس عبد الفتاح السيسى الحالية إلى ست سنوات، والسماح له بالترشح بعدها لفترة جديدة مدتها ست سنوات أخرى تنتهى فى 2030، بمثابة خطوة تحسم المواقف الملتبثة التى جرت خلال الأيام الماضية، ويبقى رأى الشعب بالموافقة عليها رهن الاستفتاء الذى يجرى خلال ثلاثة أيام (تبدأ من يوم 20 أبريل الحالي)، فى جو من الديمقراطية وبعيدا عن الوصايا والإرهاب الفكرى ل الذى يمارسه البعض على المواطنين البسطاء من أبناء هذا الشعب.
ربما جاء إقرار مجلس النواب للتعديلات الدستورية المقترحة فى نهاية جلسته العامة الثلاثاء 16 أبريل الحالى، بموافقة 531 عضوا من إجمالى 554 عضوا حضروا جلسة التصويت النهائية، وصوتوا بالأغلبية المطلوبة ليدعو الرئيس الناخبين للاستفتاء عليها خلال أيام، بينما رفضها 22 عضوا وامتنع عضو واحد فقط عن التصويت، ليفتح البرلمان بذلك فصلا جديدا فى الحياة الدستورية المصرية على أساس من جديد من الحرية والديمقراطية التى تليق بأمة قديمة وعريقة فى تاريخها.
والواقع أن إقرار التعديلات الدستورية جاءت بعد أن اجتازت مصر سنوات البناء الصعبة لمؤسسات الدولة، وفقًا لمبادئ ثورتى 25 يناير 2011 و30 يونيو، والتى أصبح بموجبها ضرورة مراجعة بعض أحكام دستور 2014، لاسيما تلك التى كشف التطبيق العملى لها عن عدم مناسبتها للأوضاع غير المستقرة للبلاد، بعد تجاوز مرحلة تثبيت أركان الدولة والتحرر من أخطار الأزمة السياسية التى فجرت ثورة 30 يونيو.
وبقراءة متأنية لأهم ملامح التعديلات الجديدة التى بمقتضاها يعين رئيس الجمهورية رؤساء الجهات والهيئات القضائية من بين خمسة ترشحهم مجالسها العليا من بين أقدم سبعة من نوابها، وذلك لمدة 4 سنوات أو للمدة الباقية حتى بلوغه سن التقاعد أيهما أقرب، ولمرة واحدة طوال مدة عمله، وذلك على النحو الذى ينظمه القانون، الأمر الذى يؤكد ضمان الكفاءة والمصداقية فى عمل الهيئات القضائية.
كما يتضح لنا أيضا أنه فى حال القيام على شئونها المشتركة مجلس أعلى للجهات والهيئات القضائية والذى يترأسه رئيس الجمهورية وعند غيابه يحل محله وزير العدل ويختص بالنظر فى شروط تعيين أعضاء الجهات والهيئات، فإن هنالك ضمانة قوية بوجود الرئيس على رأس هذا المجلس المهم، خاصة أن القانون يبين تشكيل المجلس واختصاصاته الأخرى وقواعد سير العمل به.
أيضا المادة الخاصة بتولى النيابة العامة نائب عام يصدر بتعيينه قرار من رئيس الجمهورية من بين ثلاثة يرشحهم مجلس القضاء الأعلى من بين نواب رئيس محكمة النقض أو الرؤساء بمحاكم الاستئناف أو النواب العموم المساعدين، وذلك لمدة 4 سنوات، أو للمدة الباقية حتى بلوغه سن التقاعد أيهما أقرب ولمرة واحدة طوال مدة عمله، يضمن لنا سير العمل القضائى فى مصر على نحو مختلف ويتمتع بالنزاهة فى سير إجراءات التقاضى وبسرعة.
كما أن وجود مجلس الدولة كجهة قضائية مستقلة يختص دون غيره بالفصل فى المنازعات الإدارية ومنازعات التنفيذ المتعلقة بجميع أحكامه، كما يختص بالفصل فى الدعاوى والطعون التأديبية، ويتولى الإفتاء فى المسائل القانونية للجهات التى يحددها القانون ومراجعة وصياغة مشروعات القوانين والقرارات ذات الصفة التشريعية التى تحال إليه، ويحدد القانون اختصاصاته الأخرى، يشير إلى أننا نسير فى الاتجاه الصحيح نحو تحقيق العدالة الناجزة.
وفيما يتعلق باختيار رئيس الجمهورية رئيس المحكمة الدستورية من بين أقدم خمسة نواب رئيس المحكمة، ويعين رئيس الجمهورية نائب رئيس المحكمة من بين اثنين ترشح أحدهما الجمعية العامة للمحكمة، ويرشح الآخر رئيس المحكمة. ويعين رئيس هيئة المفوضين وأعضاؤها بقرار من رئيس الجمهورية بناءً على ترشيح رئيس المحكمة وبعد أخذ رأى الجمعية العامة للمحكمة وذلك كله على النحو المبين بالقانون، فإن هذه المادة قد حسمت الجدل الدائر طوال السنوات الماضية فيما يتعلق بهذا المنصب الحساس.
أما المادة الخاصة بأن القوات المسلحة ملك للشعب، مهمتها حماية البلاد والحفاظ على أمنها وسلامة أراضيها وصون الدستور والديمقراطية والحفاظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها، ومكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد والدولة وحدها هى التى تنشئ هذه القوات، ويحظر على أى فرد أو هيئة أو جهة أو جماعة إنشاء تشكيلات أو فرق أو تنظيمات عسكرية أو شبه عسكرية، فقد جاءت على نحو يحمى ويحصن دور قواتنا المسلحة التى تتصدى للإرهاب والحفاظ على سلامة التراب المقدس.
وحول تحديد دور القضاء العسكرى فى هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ مصر فقد جاء فى وقته تماما، بحيث لا يجوز محاكمة مدنى أمام القضاء العسكرى إلا فى جرائم مثل اعتداء على المنشآت العسكرية أو معسكرات القوات المسلحة أو ما فى حكمها أو المنشآت التى تتولى حمايتها، أو المناطق العسكرية أو الحدودية المقررة كذلك، أو معداتها أو مركباتها أو أسلحتها أو ذخائرها أو وثائقها أو أسرارها العسكرية أو أموالها العامة أو المصانع الحربية أو الجرائم المتعلقة بالتجنيد، أو الجرائم التى تمثل اعتداء مباشرًا على ضباطها أو أفرادها بسبب تأدية أعمال وظائفهم.
وإضافة إلى ماسبق من تعديلات جوهرية، أرى أن هنالك مواد أخرى سوف تساهم إلى حد كبير فى خلق حالة من الانسجام التام بين كل أفراد المجتمع داخل دولاب عمل الدولة وعلى رأسها: يكون تعيين وزير الدفاع بعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وأن تعمل الدولة على تمثيل العمال والفلاحين تمثيلاً ملائمًا، وذلك على النحو الذى يحدده القانون، كما تعمل الدولة أيضا على تمثيل الشباب والمسيحين والأشخاص ذوى الإعاقة والمصريين المقيمين بالخارج تمثيلا ملائما، وذلك على النحو الذى يحدده القانون.
وترسيخا لمبدأ الاستقرار السياسى فى المرحلة القادمة تم استحداث مواد أخرى تنص على:
- لرئيس الجمهورية أن يعين نائبًا له أو أكثر، ويحدد اختصاصاتهم، ويعفيهم من مناصبهم، أو يقبل استقالاتهم.
- يختص مجلس الشيوخ بدراسة واقتراح ما يراه كفيلا بالحفاظ على مبادئ ثورتى 25 يناير- و30 يونيو، ودعم الوحدة الوطنية، والسلام الاجتماعى، والمقومات الأساسية للمجتمع وقيمه العليا والحقوق والحريات والواجبات العامة وتعميق النظام الديمقراطى وتوسيع مجالاته، ويؤخذ رأى مجلس الشيوخ فيما يلى:
- الاقتراحات الخاصة بتعديل مادة أو أكثر من مواد الدستور.
- مشروعات القوانين المكملة للدستور.
- مشروع الخطة العامة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية.
- معاهدات الصلح والتحالف وجميع المعاهدات التى تتعلق بحقوق السيادة.
- مشروعات القوانين التى يحيلها إليه رئيس الجمهورية.
- ما يحيله رئيس الجمهورية إلى المجلس من موضوعات تتصل بالسياسة العامة للدولة أو بسياستها فى الشؤون العربية أو الخارجية.
- يختص مجلس الشيوخ بدراسة واقتراح ما يراه كفيلاً بتوسيد دعائم الديمقراطية، ودعم السلام الاجتماعى، والمقومات الأساسية للمجتمع وقيمه العليا، والحقوق والحريات والواجبات العامة، وتعميق النظام الديموقراطى وتوسيع مجالاته.
- وينتخب ثلثا أعضاء المجلس بالاقتراع العام السرى المباشر، ويعين رئيس الجمهورية الثلث الباقى، وتجرى الانتخابات طبقا لما ينظمه القانون.
- يشترط فيمن يترشح لعضوية مجلس الشيوخ أو من يعين فيه أن يكون مصريا متمتعا بحقوقه المدنية والسياسية، حاصلا على مؤهل جامعى أو ما يعادله على الأقل، وألا تقل سنه يوم فتح باب الترشح عن خمس وثلاثين سنة ميلادية.
- وبين القانون شروط الترشح الأخرى ونظام الانتخاب، وتقسيم الدوائر الانتخابية، بما يراعى التمثيل العادل للسكان والمحافظات، ويحوز الأخذ بالنظام الانتخابى الفردى أو القائمة أو الجمع بأى نسبة بينهما.
- لا يجوز الجمع بين عضوية مجلس الشيوخ ومجلس النواب.
- رئيس مجلس الوزراء ونوابه والوزراء وغيرهم من أعضاء الحكومة غير مسئولين أمام مجلس الشيوخ.
ومما لا شك فيه أن تلك المواد المستحدثة تصب فى خانة أن الدستور عبارة عن مجموعة المبادئ الأساسية المنظمة لسلطات الدولة والموضحة لإطار حقوق الحكام والمحكومين دون التدخل فى المعتقدات الدينية أو الفكرية، أو كما يشبه الفلاسفة الكبار، بأنه "عقد" اجتماعى، يحدد ملامح العلاقة والحقوق والواجبات بين الحاكم والمحكوم.
والدستور هنا أيضا هو وثيقة تضمن للمجتمع حقوقه وتعبر عن تطور المجتمع واحتياجاته، ولا ينكر منصف أن الاختبار الواقعى لبعض النصوص الدستورية فى دستور 2014 أظهر الاحتياج إلى بعض المراجعة، مما يساهم فى بناء مؤسسات قوية ومتوازنة وديمقراطية تستطيع الاضطلاع بمسئولياتها بكفاءة، وذلك دون المساس بالضمانات الأساسية التى كفلها الدستور، ومن ثم فالتعديلات الدستورية استحقاق تفرضه طبيعة الأمور بمصر طبقا للظروف التى تمر بها الدولة فالدستور ملك للشعب يراعى احتياجاته وظروف كل مرحلة يمر بها المجتمع.
لكن الغريب والمثير للدهشة فى مصر أن هناك مجموعة احتكرت وبالصوت العالى فقط، جميع الحقوق الحصرية للمعرفة والعلم ببواطن الأمور فى مختلف المجالات، واعتبار أنفسهم، حراس عقيدة "التخريب والتدمير"، وكهنة الدفاع عن الدستور، وإصدار فتاوى التكفير لكل من يحاول الاقتراب منه.
وأنا هنا لا أدعو لتعديل الدستور فى حد ذاته بعيدا عن الإرادة الشعبية، ولكننى أرصد التناقضات الشديدة فى الطرح، وازدواج المعايير فى التناول، واللعب بمشاعر البسطاء، واعتبار أن الدستور مقدس ولولاه لن تكون هناك حياة، ولن يكون هناك وطن، مع أن بريطانيا وإسرائيل على سبيل المثال، لا الحصر ليس لديهما دستور.
علما بأن التعديلات الدستورية ليست مقصورة على مصر، وإنما هى موجودة فى كل دول العالم وآخرها ما حدث فى تركيا فى العام قبل الماضى، حينما تم إدخال 18 تعديلا مقترحا على الدستور التركى، وأيضا فإن الدستور الفرنسى الحالى صدر فى 4 أكتوبر 1958 لكنه شهد العديد من التعديلات كان آخرها عام 2008، وعلى مدى 60 عاما تم إدخال 24 تعديلا جديدا على فترات متقاربة أحيانا ومتباعدة أحيانا أخرى، وأول تعديل طال الدستور الفرنسى كان بعد عامين من إقراره وذلك فى عام 1960، وفى عام 1993 تم إدخال تعديلات جديدة عليه، وبعدها بست سنوات شهد الدستور الفرنسى ثلاثة تعديلات فى عام 1999.
وتكررت التعديلات بعد ذلك فى عامى 2003 "تعديلان"، و2007 "ثلاثة تعديلات"، والآن تشهد فرنسا حالة من النقاش العام حول الرغبة فى إجراء تعديلات دستورية جديدة من بينها: تخفيض عدد أعضاء البرلمان، والاعتراف ببطاقات الاقتراع البيضاء فى الانتخابات، والحد من عدد الولايات النيابية للحد من عدم الجمع بين صفتين نيابيتين، مثل عضوية البرلمان والمجالس المحلية، وغيرها من تلك التعديلات التى ترغب الحكومة الفرنسية فى الدفع بها خلال الشهور القليلة المقبلة، والتى من المحتمل إجراء الاستفتاء عليها فى مايو المقبل بحسب المصادر الفرنسية وما تتداوله الصحف ووسائل الإعلام هناك حاليا.
وعليه فالتعديلات الحالية على الدستور المصرى تؤكد أن الدساتير دائما وأبدا سوف تظل قابلة للتعديل والتغيير مادامت المصلحة العامة تقتضى ذلك، ولا داعى أبدا للدعوات التى تشيع عدم الاستقرار والشحن لعدم نزول المواطنين للإدلاء برأيهم فى صناديق الاستفتاء، وممارسة نوع من الإرهاب الفكرى، وتقسيم المواطنين إلى فسطاطين "الجنة والنار"، وفى النهاية تبقى الكلمة الفصل لدى الشعب المصرى، فهو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة فى إقرار التعديلات الدستورية من عدمه، بعيدًا عن الوصاية أو الإرهاب الفكرى الذى يمارسه بعض الموتورين الآن، فضلا عن حملات مسعورة على الفيس بوك وباقى مواقع التواصل الاجتماعى فى إطار المتاجرة بالمواقف.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة