رغم مرور السنوات، لا تزال الحكايات عن الثورة القديمة التى قام بها أهالى قرى قاو فى جنوب شرق أسيوط باعثة للحكايات، وأنا ابن هذا المكان، ابن القرى التى أطلق عليها الخديو إسماعيل مدافعه وجنوده لوأد ثورتها، ووصل القتل والتشريد هناك إلى أقصى حد، ومن قبل كتب عنها الدكتور عصمت سيف الدولة فى كتابه الشهير مذكرات قرية، كما كتب عنها الشاعر والروائى ماهر مهران روايته الأولى «قاو.. أسطورة الدم»، وأشرت أنا إليها فى روايتى «موسم الكبك».
لكن الحكاية تعود مرة أخرى بشكل أكثر احتشادًا مع الدكتور عمرو شعراوى فى روايته «ثورة قاو الكبرى» الصادرة عن دار العين، متتبعا ما حدث فى سنة 1865 عندما قامت ثورة كبرى تزعمها الشيخ أحمد الطيب ضد الحكومة، كاشفا عن أنماط مختلفة من البشر الذين يعيشون فى قراهم الفقيرة، لكن الظروف الصعبة دفعتهم للالتفاف حول رجل يحدثهم عن حقوقهم الضائعة وظروفهم القاهرة قبل أن يخبرهم بأنه المهدى المنتظر المقبل، ليخلصهم مما وقعوا فيه.
الرواية تؤكد لك أن عمرو شعراوى على معرفة كبيرة بالأحداث والأماكن والتاريخ الذى وقعت فيه الكارثة، لكنه لم يكتف بذلك، بل بث الروح داخل هذه الأحداث، وقاد مشاعر القارئ لخوض معركتين فاصلتين انتصر الأهالى فى الأولى قبل أن تعاد عليهم الكرة، ويرتكب نظام الخديو واحدة من الكوارث الإنسانية فى التاريخ المصرى.
كما احتفى عمرو شعراوى بشخصيات روايته وجعلهم مفعمين بالحياة، بداية من الجدة «بدرية» وانتهاء بالحفيد «مقدام» مرورا بأحمد مشهور وابنه عبد الرحمن، والشيخ الطيب ورجاله وحتى قطاع الطرق والمجرمين وعلى رأسهم حماد المشاعلى والعمد والخونة أيضا، ومن قبل ومن بعد «عجيب وأبو العجب» الشخصيات القادمة من خيال الظل لابن دانيال، كل هذه الشخصيات تحركت على الأرض، معبرة عن نفسها وتاريخها.
لقد كانت معركة كبرى فى مواجهة القادمين من الشمال، بينما الناس محصورين بين النيل والجبل، لا مهرب، وفى اللحظة الحاسمة، عندما قاد فاضل باشا ورجالة الغارة الكبرى، لم يصمد سوى أبناء القرى الذين دفعوا الثمن باهظا، قتلا على الخوازيق أو نفيا إلى دمياط، لتتحول القرى إلى خرابات ممتدة على جانب النهر، ويستمروا عبر الزمن حكايات لا تموت.
فى الرواية يحاول عمرو شعراوى، أن يبدو «مؤرخًا» محايدا، لكن تغلب عليه العاطفة، إنه ينتمى إلى هذه القرى إلى ناسها وشخصياتها، دافع عن أبطالها الحقيقيين ومنحهم أسماءهم وحفظها لهم فى رواية شيقة تعرفك الكثير من الحكايات المنسية لشعب مصر، لكن فى ثوب من الفن.