سألنى ذات مرة أحد أطفال العائلة النابهين: ماهو طريق الحرير؟.. أعطيته إجابة شعرت معها أنها لم تكن كافية لتشفى غليله، وقبل أن أنهى إجابتى التى من الواضح أنها لم تعجبه، أردف بسؤال ثان: ولماذا الاهتمام به مرة أخرى هذه الأيام؟.. تذكرت السؤال، وأنا أتجول فى قاعات وردهات ما يسمى بمهرجان الشارقة القرائى للطفل الذى تنظمه الشارقة حتى 27 إبريل الجارى فى مركز «إكسبو» الشارقة، ورأيت معرضا فريدا لا مثيل له فى منطقتنا، لأنه من إبداع وتنظيم المتحف الأمريكى للتاريخ الطبيعى فى نيويورك بالتعاون مع المتحف الأسترالى للتاريخ الطبيعى، والمتحف الوطنى للعلوم الطبيعية بأستراليا، يقدم المعرض الإجابة عن قصة هذا الطريق للكبير والصغير بمتعة بصرية وعقلية ربما لا مثيل لها باستخدام كل وسائل الإبهار وجذب الانتباه، من شاشات تعمل باللمس، ومجسمات، وخرائط، و«ديورامات»، تدخل من اتجاه وتدخل فى الأجواء وتستشعر أنك ركبت آلة الزمن لتعود بك إلى عدة قرون بعيدة مضت (من 600 إلى 1200 قبل الميلاد)، فترحل باستخدام الجمال والمراكب عبر وديان وصحارى مقفرة موحشة، وأنهار وبحار، ومرتفعات وسهول، وتحل عبر مدن بعينها كانت لها تأثيرها وسمعتها ودورها العظيم ارتباطا بهذا الطريق الذى كان همزة الوصل بين الإمبراطورية الصينية فى ذروة مجدها ودول آسيا، وحتى بغداد فى المشرق العربى .. «طريق الحرير» لمن لا يعرف هو رحلة تجارية هى الأصعب على مر التاريخ، متضمنة تفاصيل غاية فى الجمال والغرابة، بها الكثير من المواقف والحكايات والمشاهد التى يمرّ بها الرحالة وينسجون عنها حكايات لا تنتهى حتى تبدأ أخرى. لم يكن الطريق وسيلة لنقل البضائع فقط بل تبادل الرحالة عبر هذا الطريق الديانات والموسيقى والآداب وحتى أساليب الفكر، كما حمل المسافرون على طول طريق الحرير القديم فى جعبتهم قصصا وحكايات لاتزال تروى حتى يومنا هذا وحدث ما يمكن أن نسميه تلاقح حضارات .. مثلا الأرقام العربية التى نستخدمها اليوم تعتمد على نظام هندى ونقلها أحد علماء المسلمين الأوائل عبر هذا الطريق، وبالتأكيد وصل الإسلام عبر هذا الطريق إلى الصين وكل ممالك آسيا.. يجد الزائر عند دخوله مجسما مركبا حقيقيا، ولكنه مقطع طولى، وترى داخله الجرار التى كانت تملأ بالحبوب والبضائع والآنية التى يتم بيعها عبر الطريق، كل شىء تتخيله كان يتم شحنه ونقله.. من «شيان» عاصمة الصين فى عهد سلالة تانج الحاكمة تنطلق الرحلة من أولى محطاتها، حيث يحكم الرحّالة بضاعتهم على ظهور القافلة المؤلفة من الجمال، بعضها بسنام واحد، وبعضها بسنامين بعد أن غاب آخر شعاع للشمس، حيث كان من طقوس السفر عبر هذا الطريق التحرك ليلا، والسكون نهارا تفاديا لحرارة الشمس المحرقة التى كانت تتجاوز فى بعض الأماكن 55 درجة مئوية، وتنخفض ليلا إلى ما دون الصفر، وتستمر الرحلة قرابة 6 أشهر 182 يوماً وليلة واحدة، يغيب خلالها التاجر والرحالة عن بيته وأسرته طوال هذه الفترة، وارتبط اسم الطريق بالحرير الطبيعى الذى كان يصنع من مصدره الطبيعى عن طريق دودة القز التى تربى على أوراق التوت والذى قد لا يعرفه البعض هو أن «طريق الحرير»، لا يعدّ درباً واحداً وحسب، بل عدّة طرق برية وبحرية، شكّلت شبكة من مختلف أصقاع العالم استطاع التجّار من خلالها أن يتبادلوا مختلف أشكال الحرير وغيرها من السلع الضرورية التى كان من بينها مثلا الزجاج الذى عندما وصل الصين لأول مرة اعتبروه أندر الجواهر، وكانوا ينقلون البطيخ والفواكه الأخرى محفوظة فى علب من الرصاص، ومحاطة بالمثلجات التى تحفظها وتصل بها سليمة إلى بلد آخر. وعلى امتداد خط سير يبدأ من الصين وينتهى فى بغداد كان هناك مرور بمدن أربع: هى شيان وتورفان وسمرقند وأخيرا بغداد، المسير فى ذلك الوقت لم يكن سهلاً، والخيارات ليست واسعة على الإطلاق، إما سيرا على الأقدام، أو باستخدام الجمال، وإما عبر مراكب .
الصين تعيد بناء إمبراطوريتها الاقتصادية المعاصرة بإعادة الروح إلى هذا الطريق التاريخى، عبر عدد من الأفكار الاقتصادية البراقة، حيث أطلق الرئيس الصينى شى جين بينغ عام 2013 مبادرة إحياء «طريق الحرير»، التى من المتوقع أن ينتفع منها، بشقيه البرى والبحرى، أكثر من 65 بلدا، يعيش فيها أكثر من 4 مليارات نسمة، ووصل أول قطار مباشر لنقل البضائع من الصين إلى لندن فى رحلة استغرقت 18 يوما، وحمل القطار عشرات الحاويات المعبأة بالملابس التى تم شحنها من ييوو، مدينة شرقى الصين إلى باركينغ شرقى لندن، ومر القطار عبر رحلة طولها 11999 كيلومترا بكازاخستان وروسيا وبيلاروسيا وبولندا وأوروبا الغربية، ودخل القطار بريطانيا قادما من فرنسا عبر نفق بحر المانش.. تمت هذه الخطوة المبهرة لأول مرة فى يناير 2017، ومن يومها والصين فى سباق مع الزمن.. ويبقى السؤال المهم لنا: هل مصر على طريق الحريرالجديد؟
وإذا كانت الصين تنتهج فى العقود الأخيرة سياسة تنفيذ ما تعد به مهما كان معجزا، فمصر فى عهد السيسى، تنتهج ربما سياسة استباقية بالتنفيذ أحيانا كثيرة قبل أن يعلن عن الشىء.. المؤكد أن مصر يمكن أو يجب أن يكون لها دور رئيسى فى مبادرة الحزام والطريق، المسمى الجديد لطريق الحرير- لسبب جوهرى يتمثل فى الموقع الجغرافى الذى يجعلها قادرة على تقديم الخدمات اللوجيستية للشرق الأوسط وأفريقيا. ناهيك عن أن قناة السويس تمثل الممر الملاحى الرئيسى الذى يربط الشرق بالغرب، لذلك فحركة التجارة المنقولة عبر طريق الحرير والمتجهة إلى أوروبا يمكن أن تمر عبرها، كما أن محور قناة السويس الاقتصادى باعتباره مركزا لوجيستيا لتقديم خدمات الترانزيت للسفن سيعزز دور مصر فى هذا الطريق الذى تقول التقديرات إن عوائده ستصل إلى 600 مليار دولار فقط من خلال الدول العربية.. فما بالنا ببقية دول العالم؟!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة