نعيش زمن القبح، زمن القتل والحرق والخراب والدمار.. زمن كراهية الحضارة والتنوير، والتشكيك فى التاريخ..!!
رأينا، وبمجرد سقوط بغداد، سارعت القوى المعتدية، يدعمها جماعات الإرهاب، وتنظيمات الظلام والجهل والتخلف، لسلب ونهب وتدمير المناطق الأثرية، والمتاحف التاريخية، وكأنهم ينتقمون من عمق حضارة الشعب العراقى، وأن بابل وآشور، يوما كانتا رمزا للحضارة والتنوير..!!
نفس السيناريو التخريبى المدمر، وجدناه يطبق فى سوريا، ورغم أن معظم الآثار فى بلاد الشام إسلامية، فإننا رأينا جماعة الإخوان الإرهابية، وابنتها المدللة، داعش، وجبهة النصرة، والقاعدة، يسارعون بتدمير وتهريب وسلب الآثار، وما حدث فى منطقة «تدمر» شاهد عيان، على الكارثة الحضارية..!!
و«تدمر» لمن لا يعلم، هى مدينة أثرية ذات أهمية تاريخية كبيرة، تقع حالياً فى محافظة حمص السورية، ويعود تاريخها إلى العصر الحجرى الحديث، وتضم مواقع أثرية من مختلف العصور..!!
ونذكر الجميع، ماذا حدث فى مصر، يوم 28 يناير 2011 عندما حاولت نفس التنظيمات والجماعات الإرهابية الظلامية، والحركات الفوضوية، اقتحام المتحف المصرى، وسرقة مقتنياته، والعبث بما يضمه من تماثيل وقطع أثرية لا تقدر بثمن، وشاهدة على حضارة وتاريخ مصر الشامخ، والمتجذر فى أعماق التاريخ، ولولا تدخل القوات المسلحة لكان هناك كارثة إنسانية وحضارية كبرى..!!
لم تكتف الجماعات والتنظيمات الإرهابية، والحركات الفوضوية بالعبث بالمتحف المصرى، فحسب، وإنما ارتكبوا جريمة ثقافية وتاريخية كبرى، عندما أحرقوا «المجمع العلمى» عمدا مع سبق الإصرار والترصد..!!
والمجمع العلمى، لا يعد من أعرق المؤسسات العلمية، فحسب، ولكن قيمة ثقافية، وتاريخية، كبرى فقد أنشئ فى 20 أغسطس 1798 بقرار من نابليون بونابرت، قائد الحملة الفرنسية على مصر، حينذاك، وكان مقره دار أحد بكوات المماليك بالقاهرة، ثم تم نقله إلى الإسكندرية، عام 1859 وأطلق عليه اسم المجمع العلمى المصرى ثم عاد للقاهرة من جديد، عام 1880.
وكانت أهداف المجمع العلمى، التى تأسس من أجلها، هى العمل على التقدم العلمى، ونشر العلم والمعرفة، ولذلك ضمت مكتبته 200 ألف كتاب، أبرزها أطلس عن فنون الهند القديمة، وأطلس باسم مصر الدنيا والعليا، والذى تم إعداده عام 1752، وأطلس ألمانى عن مصر وإثيوبيا، يعود لعام 1842، وأطلس ليسوس ليس له نظير فى العالم، وهى وثائق جغرافية واجتماعية وتاريخية، لا نظير لها، ولا تقدر بثمن...!!
ناهيك، عن نهب متحف ملوى، وتدميره، والفتاوى التى أصدرها أتباع الجماعة الإخوانية الإرهابية، بضرورة تحطيم الأهرامات، وتمثال أبوالهول، أو تأجيرها لقطر..!!
ورأينا مؤخرا، بأعيننا، الحريق الكارثى، الذى اندلع فى كنيسة «نوتردام» بفرنسا، والقلب يعتصر ألما، على هذا المعلم التاريخى المهم والأبرز، ليس فى فرنسا أو أوربا فقط، ولكن فى العالم كله..!!
نعم استيقظت مدينة باريس، وأوروبا، بل والعالم كله، على كارثة حريق كاتدرائية نوتردام، أبرز التحف الأثرية فى العالم، وظل الجميع شاخصين أمام ألسنة النيران التى التهمت السقف التاريخى، ويأتى على كل التحف والتماثيل والمناظر الرائعة على جدران الكاتدرائية..!!
الغريب، أن الكاتب العبقرى، فيكتور هوجو، كان قد ألف رواية «أحدب نوتردام».. وتوقع فيها ما حدث من حريق، حسبما أكد أكثر من أديب ومثقف، عقب الحريق المروع والذى أتى على أجزاء من الكاتدرائية التى تدور فيها أحداث الرواية.
فيكتور هوجو فى روايته الشهيرة، شخصن «نوتردام» وحولها إلى كائن حى، له حياته ومساره على الأرض، وهو التشخيص الذى أعطى الرواية نكهتها وروعتها وقوتها، وهو ما مكن «أحدب نوتردام» من الانتصار على رواية «البؤساء» رغم أن هذه الأخيرة تفوقها إبداعا وروعة.
الحريق المدمر للأثر التاريخى، والقطعة الفنية، «كاتدرائية نوتردام» دفع كل فرنسى، من أصغر طفل إلى رئيس الجمهورية، وكأنه ينطق بلسان «فيكتور هوجو» ويدافع عما كتبه قبل قرنين، بالطريقة عينها والحماسة ذاتها.. إنهم يصفونها مثله تماماً بأنها الكاتدرائية «المركزية» وبأنها نوع من «خيال» و«أسطورة»، ويترنمون عشقا فى كل واجهة، وكل حجر، من هذا الأثر البديع، الذى يعد صفحة ليس لتاريخ بلادهم فرنسا، فقط، بل لتاريخ الفن والعمارة فى العالم أيضاً.. وهو ما يدعم بقوة قيمة الأدب والفن، وأنه يظل شاهدا قويا، ومتنبئا بالمستقبل، ومنذرا لأحداث قد تقع، والعمل على تفاديها..!!
فكر كراهية الحضارة والتاريخ المسيطر على الجماعات والتنظيمات الإرهابية والفوضوية، خطير، وكاره لكل تنوير، وجمال وإبداع، ويدشن للظلام والتخلف والرجعية.. ولكن لا يمكن للظلام أن يستطيع الوقوف أمام النور..!!