غاب الإخوان عن المشهد السياسى عقب ثورة حاشدة فى 30 يونيو، وعادوا إلى دورهم المعتاد فى العمل السرى المصحوب العنف والتحركات العدائية ضد الدولة والمواطنين، لكنها قررت فى هذه المرة أن تحتفظ بمسامير فى جسد السياسة المصرية، وأن تظل متحكمة فى المشهد الحزبى من خلال بعض الكيانات الكرتونية المرتبطة بها.
كان واضحا فى الشهور التالية لثورة 25 يناير أن جماعة الإخوان اختارت توسيع رقعة حضورها السياسى، عبر توزيع رجالها ووكلائها على عدد من المنصات السياسية، فدشنت حزب الحرية والعدالة الذى صدرت قرارات بحله عقب ثورة 30 يونيو، وتولى رجالها الخفيون أو من ادعوا الانفصال عنها تشكيل أحزاب أخرى تابعة، كان أبرزها مصر القوية الذى أسسه عبد المنعم أبو الفتوح، والوسط الذى أسسه أبو العلا ماضى وعصام سلطان، والعدل الذى أسسه مصطفى النجار وعبد الرحمن القرضاوى.
إلى جانب قائمة الأحزاب الإخوانية المباشرة، فتحت الجماعة قنوات اتصال مع أحزاب أخرى قديمة، واستضافت بعضها على قوائمها الانتخابية فى انتخابات البرلمان 2011، وسعت الجماعة إلى اختراق أحزاب أخرى تأسست عقب ثورة يناير، عبر القيادات الوسيطة والخلايا النائمة التى تصدرت مشهد تلك الأحزاب عقب الإطاحة بالإخوان وقرار مؤسسى الأحزاب المدنية مغادرتها، وكان للإخوان ما أرادوا بمدّ رقعة نفوذهم إلى داخل الهيئات العليا لأكثر من خمسة أحزاب سياسية.
الرباط الوثيق بين الإخوان وعدد من الأحزاب السياسية المحسوبة على الأيديولوجيات الليبرالية واليسارية والناصرية، بدا واضحا فى تدشين ما عُرف بـ«الجبهة المدنية الديمقراطية» أواخر العام 2017، بمشاركة 7 أحزاب منها حزب إخوانى و3 تربطها صلات قوية بالجماعة، إضافة إلى 150 شخصية عامة بينهم 18 وجها سياسيا وأكاديميا يرتبطون بالجماعة، إضافة إلى أكثر من 30 آخرين تجمعهم اتصالات دائمة بكوادر الإخوان فى الداخل والخارج، وقبل ساعات من انطلاق الاستفتاء على التعديلات الدستورية نشطت تلك الحركة، وعدد من رموزها فى إطار استهداف الاستفتاء ومحاولات تشويهه، عبر خطاب يطابق تقريبا ما تبثه قنوات الإخوان ومنصاتها الإعلامية من خطابات.
التحرك الذى استبق انطلاق الاستفتاء كان متوقعا ألا يكون الأخير، وأن تتبعه خطوات أخرى شبيهة، لكن حالة الاحتشاد وكثافة المشاركة فى كل لجان التصويت على امتداد الجمهورية سدّت ثغرات النيل من الاستفتاء بزعم ضعف الإقبال أو تراجع المشاركة أو توجيه المقترعين، لذا كان ضروريا أن تبحث الجماعة وحلفاؤها عن ثغرات بديلة لتمرير خطابهم السابق، فانطلقت قنوات الإخوان مدعية أكاذيب ساذجة عن اختطاف المواطنين وتخويفهم من خلال المساجد، ونشطت جبهة الداخل والأحزاب الموالية للجماعة على صعيد تشويه حالة الاصطفاف الوطنى، وادعاء أنها كانت مصنوعة من خلال رشاوى انتخابية، فيما يمثل إهانة مباشرة لملايين المواطنين الذين أدلوا بأصواتهم فى استحقاق دستورى تحركوا خلاله بوازع وطنى، بينما يرى الفريق المعادى لتحركهم أنهم مأجورون ويحصلون على مقابل حبهم لوطنهم.
ترويج هذا الخطاب كان فى حاجة إلى أدلة، وباعتبار أن الأدلة التى تؤكد تلك المزاعم غير متوفرة، فلا بديل عن صناعتها، وهكذا بدأ أحد الأحزاب المحسوبة على التيار الناصرى الاستعداد لصناعة الأدلة، عبر شراء كميات من الكراتين المعبأة بالسلع الغذائية، استعدادا لتصويرها فى مؤتمر صحفى وادعاء أنها كانت تُوزع أمام لجان التصويت فى الاستفتاء.
الخطة إخوانية النكهة كان مقدرا أن تسير بهدوء وصولا إلى محطة المؤتمر الصحفى وترويج تلك المزاعم باعتبارها حصيلة رصد مباشر لأعضاء وكوادر الحزب من محيط لجان التصويت، لكن مشاجرة فى أروقة الكيان الحزبى الهش كشفت المستور، إذ شهدت الساعات الأخيرة احتداما فى الخلافات فى أروقة الحزب على خلفية تدبير كُلفة الكراتين والسلع الغذائية، والخلاف على أسعارها وأشخاص المكلفين بتوفيرها، وزاد الاحتدام حتى خرج الخلاف إلى العلن، ووصل إلى الأجهزة الأمنية التى بدأت تحقيقات فى الأمر، من المقرر أن تشهد التوصل إلى تفاصيل وأسماء المكلفين بإنجاز المهمة، وجهات التمويل التى وفرت التكلفة المادية لها.
تحرك الحزب الذى يدعى الارتباط باسم الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ليس جديدا، فسبق أن جمعته تفاهمات وعمليات تنسيق واسعة مع جماعة الإخوان الإرهابية، سواء فى استحقاقات انتخابية، أو فى أنشطة وفعاليات سياسية، ويرتبط عدد من كوادره بصلات وثيقة مع قيادات الصفين الأول والثانى فى الجماعة، وبعضهم تجمعه روابط اجتماعية وعائلية مع عناصر بارزة فى محيط الإخوان وخريطة تحالفاتها من التيارات الدينية.
فضيحة التحركات الإخوانية التى ينفذها فصيل من الناصريين لم تخرج إلى قواعد الحزب وأرجاء الساحة السياسية فقط، وإنما ترددت أصداؤها حتى وصلت إلى مواقع التواصل الاجتماعى، فكتب عدد من الناشطين مشيرين إلى تحركات أحد الأحزاب المحسوبة على المعارضة الناصرية، واستعداده لتنظيم مؤتمر صحفى من المقرر أن يُظهر فيه كميات من السلع الغذائية باعتبارها من الرشاوى السياسية التى جرى توزيعها أمام لجان الاستفتاء، وأن قنوات الإخوان ستوفر تغطية واسعة للمؤتمر ومواده البصرية، فى إطار الحملة التى تنفذها منذ أيام باستعادة صور قديمة من الحملات الاجتماعية والخيرية فى مناسبات وطنية ودينية باعتبارها أحداثا جديدة خلال فترة الاستفتاء، لتكون المواد الجديدة التى سيوفرها المؤتمر مساحة مختلفة فى تثبيت تلك الرؤية، من خلال مشاهد جديدة بدلا من الصور الأرشيفية.
وبحسب مصادر من داخل التيار الناصرى، فإن المشاجرة التى اندلعت داخل الحزب الموالى للإخوان شهدت تراشقا بالاتهامات بين عدد من القيادات والكوادر الوسيطة، ادعى بعضهم استحواذ شخص واحد على الأموال المخصصة لشراء الكراتين والسلع الغذائية، وتوجيه قدر ضئيل منها لهذا الغرض بينما لا يعرف أحد مصير باقى المبالغ، لافتين إلى أن تلك المبالغ وصلت من خلال ثلاثة من أبرز كوادر التيار، وأنه ربما تكون حصيلة تبرعات جمعتها شخصيات سياسية معارضة، بالتعاون مع عدد من رموز منظمات المجتمع المدنى وبعض الأحزاب الليبرالية، ومن المحتمل أن تكون تدفقات مباشرة من خلال جماعة الإخوان، سواء بتحويلات من المكتب الإدارى فى الخارج عبر أيمن نور أو القيادى البارز فى التيار «س. ع»، أو حتى من خلال المكاتب الإدارية فى الداخل.
وتوقع مراقبون للشأن السياسى أن تشهد الساعات المقبلة تحركات جادة من جانب سياسيين داخل التيار الذى ينتمى إليه الحزب، أو من الحركة المدنية والشخصيات العامة، لفضح تلك الممارسات واتخاذ مواقف إعلامية وسياسية وقانونية حاسمة معها، وربما يمتد الأمر إلى تقديم بلاغات للنيابة بشأن الواقعة، خاصة مع اعتراضات نسبة غير قليلة من أعضاء وقواعد الحزب على المسار الذى قرر رئيس الحزب وقيادات الصف الأول به السير فيه، وهو ما يُرجح أن يشهد الأمر خلال الساعات المقبلة مزيدا من التصاعد داخل الحزب والتيار، وعلى الصعيد العام، وصولا إلى كشف الضالعين فى تلك الممارسات، وفضح قنوات اتصال الجماعة الإرهابية داخل بعض الأحزاب التى تحسب نفسها على المعارضة أو التيار المدنى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة