ثورة 1919 كانت طاقة النور التى اتقد فيها وهج الوطنية المصرية، واستمر تلألؤها هاديا وملهما،لأنها دون مبالغة كانت علامة فارقة فى تاريخنا الحديث، بعد قرون كئيبة ومعتمة انتهت مع دوى مدافع الحملة الفرنسية وما تلاها من أحداث، فمصر فعليا بحقائق التاريخ وواقعيا بتحولات البناء السياسى والاجتماعى ما قبل سنة 19 غيرما بعدها، شكلا وموضوعا، إذ تبلور فى أتون انتفاضتها الشعبية الوعى الوطنى والنضوج السياسى، وتجذر مفهوم المواطنة الذى كان غائبا ومهشما.
مئوية هذه الثورة حدث قبل أن تكون مناسبة، حدث إغفاله هوان، وتبديد للذات الوطنية، وقد غطته وسائل الإعلام، لكن شيئا حيويا ظل مفتقدا فى الاحتفاء بهذه الذكرى المجيدة، يستوجب فعلا يعكس مكانة ثورة غير مسبوقة، من خلال توثيق يلحق الحاضر بالمعطى التاريخى، كضرورة لتواصل مفردات المكون الوطنى، بطبيعة الحال لم يفت الأمر عمن يملكون الرؤية ويقدرون المسؤولية، ولأن حزب الوفد هو الحزب الوحيد فى تاريخ الحركة الوطنية المصرية الذى كان نتاج تفاعل سياسى أسست له سنة 19 جموع الشعب، لذلك انبرى فصيل من سلالة هذا الحزب للقيام بالمهمة، وتغطية الثغرة، التى كان تركها مفتوحة عارا جسيما فى المشهد الإعلامى والسياسى، وعوارا جللا ينال من رصيد وسمعة الجيل الحالى، سواء من ذرية الوفد على وجه الخصوص أو كل المصريين بصفة عامة.
التحية واجبة لكل من تبنى وساهم فى هذه المبادرة، التى أثمرت السجل الوثائقى المصور لأبرز أحداث ثورة ونتائجها «1919 – 1952» كما جاء فى مقدمة الغلاف، الذى حمل عنوانا رئيسيا دالا نفد إلى جوهر الحقيقة، ومن اللافت أن العنوان الرئيسى لم يكن دالا فقط، ولكنه كان أيضا مكثفا للغاية اقتصر على كلمتين فقط، وهذا يعزز الفكرة ويوطد المعنى، وكما جاء فى مأثورة «النفرى» «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة»، العنوان النابه للسجل هو «الثورة الأم»، فهى الفعل الإيجابى العاصف غير المسبوق، الذى اجتاح كل ربوع مصر، وأدى إلى تغير أساسى فى الأوضاع السياسية والاجتماعية للشعب المصرى.
يطالع القارئ فى الغلاف أربعة أسماء تبدأ بالكاتب الصحفى الأستاذ / شريف عارف الذى قام بتحقيق وتوثيق السجل، وجهده فى هذا الإنجاز يشار إليه بالبنان، فاختيار المادة العلمية والصور تمت بانتقائية وتسلسل يتماشيان مع طبيعة معطيات ثورة 19 وتدافع وقائعها وتداعياتها، ويلاحظ أن الكتابة تمت بسلاسة، تعبر عن الأفكار دون إخلال بعمق المحتوى، وقد بدا الحرص واضحا لدى عارف فى الاعتماد على الوثيقة حفاظا على الموضوعية، وهذه الوثيقة تتعدد أشكالها ما بين صفحة من الوقائع المصرية، أو صفحة من الإصدرات الصحفية مثل اللطائف المصورة ومجلة المصور، أو صور من تلغراف ومنشورات التنظيم السرى للثورة، ولم تخل الوثيقة فى السجل من الكاريكاتير، ثم الإعلانات التى تعكس النهضة الاقتصادية التى كانت الثورة حافزها الأساسى، وتتعدد أنواع الوثيقة بكثير من الأشكال الأخرى، ومن أهم ما حفل به السجل الصور الفوتوغرافية، وهى البطل المرئى فى هذه المطبوعة المعتنى بها الذى ينطق بالحقيقة بلا تزويق، نرى من خلالها الرجال الذين صنعوا المجد، والنساء اللائى تحركت جموعهن لأول مرة فى الشارع، وأزاحت المرأة فى كنف الثورة عن كاهلها فى لحظة تألق وطنى تراث الإقصاء ووضعية الحريم، الصورة هى البطل لشعب بطل سباق بالثورة بين بلدان المستعمرات البريطانية فى إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، وقد صنعت الصور التى تساوت مع النص المكتوب تيار متدفق طوال التصفح من النوستولجيا، ففى الصور التاريخية تكمن دائما طاقة الخيال والحنين.
لم يفت على القائمين على هذا العمل أهمية المراجعة التاريخية للمحتوى، وقام بهذه المهمة الحيوية الدكتور خلف الميرى لتصويب أى أخطاء صغرت أم كبرت يمكن أن تعكر جهد الإعداد، وتترك فى هذا الصرح نقيصة لا داعى لها.
كان من الواجب أن يفتتح هذا البناء بكلمة من رئيس حزب الوفد الحالى، ليس بصفته قمة الهرم فيه، لكن باعتباره رمز التواصل بين ماض وحاضر، وكان الرجل أهلا للعهد، فجاءت الكلمة التى دبجها المستشار/ بهاء الدين أبوشقة رئيس حزب الوفد وقد أوجزت فى مساحة الكتابة، ولكنها أفسحت للمعنى، إذ يقول أبوشقة عن حزب الوفد أنه هو الابن البكر لثورة 19، ويشير إلى السجل بأنه وثيقة لكفاح الشعب المصرى وإرادته الصلبة، ونضاله من أجل الحفاظ على تراب الوطن وكرامة الوطن والمواطن، ويذيل كلمته بإشارة إلى مقولة المستشرق «جاك بيرك» فى كتابه «مصر.. والإمبريالية والثورة» إن الثورة الوطنية الديمقراطية عام 1919 أصبحت الآن حدثا من أحداث الماضى، ولكن تأثيرها الساحر على المصريين مازال حيا فى العقول.
وأخيرا يلزم إحقاقا للحق توجيه الشكر والعرفان للدكتور/هانى سرى الدين السكرتير العام لحزب الوفد، الذى لم يبخل وكان سخيا فى تمويل هذا الإنجاز، الذى خرج لمكتبة الوطنية المصرية فى ثوب قشيب، وفخامة تليق بجلال المناسبة، وأهدى للأجيال ذاكرة تتجدد لكل من طالع وسيطالع مستقبلا هذا السفر، الذى استعاد من بين صفحات التاريخ أمجادا ورفعة وتضحيات وسمو، سفر من صياغة المصريين، لحدث مذهل تمت وقائعه منذ مائة عام، ولم تكن المفاهيم والرؤى بعيدة عن هانى سرى الدين وهو يخط أهدائه، وهذا ما يفسر مكرمته، التى تشى عن السبب فى الإغداق بأريحية، من وطنى فاضل يجود باحترام لتاريخ بلاده .
تتبدى من هذا السجل قيمة مهمة وهى أن العمل التطوعى دائما ما يكون النجاح حليفه، والتحية واجبة لكن من ساهموا بالجهد والفكر والوقت ليكتمل هذا المشروع المضنى، بعد عمل دؤوب وإتقان باد لكل من يتصفح، وكل عين مدربة تدرك ما وراء هذه المطبوعة إجادة وإحكام.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة