لا تهدأ حركة التفاعلات على الساحة الدولية. إلا أن تغيرات مؤثرة لابد وأن يسبقها عوامل قوية، مثلما يتبعها دلالات لا يصح إهدار ما بها من مؤشرات تستشرف آفاق جديدة، تصعد بها قوى، وتتراجع أخرى عن موقعها داخل منظومة توازنات القوى، بشكل إقليمي أو دولي علي السواء.
والحديث عن موازين القوى، يمكن من خلاله إيجاز الملاحظات التالية علي مجمل الساحة الدولية وما بها من قوى:
• يرتكز النظام العالمي الراهن، أُحادي القطبية الأمريكية، على قواعد اتزان تضمن بقاء الزعامة في جانب الولايات المتحدة. وأي تحركات تشير إلى بزوغ قوى مُعادية لابد وأن تلقى معارضة من القطب الأمريكي. كما أن زعامة الولايات المتحدة للنظام العالمي تستقر بسيادة مجموعة من المبادئ والمحددات. لعل أهمها السيطرة على عضوية نادي الأسلحة النووية؛ ومن ثم فإن كوريا الشمالية تمثل هاجسًا لواشنطن، ربما تزيد خطورته على المنافسة الاقتصادية مع التنين الصيني علي المركز الأول في الاقتصاد العالمي. ومن هنا تبذل إدارة ترامب جهودًا كبيرة لاحتواء الطموحات النووية لكوريا الشمالية. وهنا يمكن الإشارة إلى العلاقات المتميزة التي تجمع كوريا الشمالية مع الصين. وعليه فإن سيطرة الولايات المتحدة علي البرنامج النووى لكوريا الشمالية ينزع من أيدى الصين ورقة قوية في خضم المساومات الأمريكية ـ الصينية. فلطالما استفادت الصين بزعم محاصرتها للطموحات النووية لبيون يانج. ولعل العلاقات الأمريكية ـ الكورية الشمالية تتطلب مقالاً منفردًا في القريب بإذن الله.
• الاتحاد الأوروبي، 28 دولة بما فيها بريطانيا. هو قصة نجاح لا مثيل لها؛ إذ بدأ بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بمجموعة من الاتفاقات الاقتصادية والتجارية تدرجت فيها العضوية والأهداف، حتى كانت معاهدة ماسترخت عام 1992. وبهدف استبعاد شبح أي حرب عالمية ثالثة، بعد الدمار الهائل الذي لحق بالدول الأوروبية جراء الحربين العالميتين الأولي والثانية، تقوم فكرة الاتحاد الأوروبي علي إنشاء مؤسسة "فوقومية"، تُنقل لها صلاحيات وسلطات الدول القومية، وعليه فإن الاتحاد الأوروبي ينتقص من الإرادة السياسية للدول الأعضاء، مقابل سياسات موحدة رشيدة تضمن أفضل سُبل للتعاون بين الأعضاء من جهة، وبينهم وبين العالم الخارجي من جهة أخرى. إلا أن الأدبيات السياسية دائمًا ما تصف الاتحاد الأوروبي بأنه عملاق اقتصادي، وقزم سياسي، نظرًا لغياب إرادة سياسية موحدة. ومن هنا لا تجد للاتحاد الأوروبي تدخلاً قوياً وفاعلاً في الملفات الدولية الساخنة. ولعل ما يهمنا قضية الصراع العربي ـ الإسرائيلي. إذ يكتفي الاتحاد الأوروبي بما تتركه له واشنطن من أدوار اجتماعية واقتصادية هامشية دون المشاركة الفعالة في سير المفاوضات السياسية بين الجانبين، اللهم إلا "رتوش" لا تؤثر في البناء الفكري للتفاوض حول لصراع العربي ـ الإسرائيلي. وداخليًا نجد الاتحاد الأوروبي يعاني جراء صعود أسهم السياسات الشعبوية الطاعنة في جدوى الكتلة من الأساس. إلا أن المصاعب التي تواجهها عملية "البريكزت" وما قد تحدثه من انشقاقات داخل المجتمع البريطاني، وخسائر اقتصادية متوقعة، قد تدفع بالشعوب الأوروبية باتجاه تأييد فكرة الاتحاد فيما يُعد خسارة للسياسات الشعبوية وأصحابها. غير أن الملاحظ وجود تباينات واضحة في السياسات الخارجية للدول الأعضاء، لاحظ في ليبيا علي سبيل المثال، الخلاف كبير بين روما التي تؤيد "السراج"، بينما فرنسا تساند "حفتر".
• روسيا، الوريث الشرعي للاتحاد السوفيتي، القطب العالمي المهزوم في الحرب الباردة، والتي تفكك على أثرها، وتحلل معسكره الشرقي، وانضم بعضه إلى المجتمعات الأوروبية الغربية بما فيها من رفاهية وتقدم. إلا أن روسيا مع بوتين، العقيد السابق بالمخابرات ولاعب الجودو ومقاتل السامبو الروسية والحاصل علي درجة الدكتوراه في الاقتصاد، تمسكت بوجود فاعل علي الساحة الدولية. ربما لا يُطاول منافسة حقيقية للقطب الأوحد، إلا أنه بالفعل انتصر في عدة معارك مؤثرة في تشكيل موازين القوى لو تم استثمارها جيدًا. نذكر من ذلك اقتطاعه شبه جزيرة القرم، ومساعدته الفاعلة لنظام بشار الأسد حتى حال دون سقوطه رغم النزاعات المسلحة علي الأرض السورية منذ 2011، وحافظ الدب الروسي بالتالي علي وجوده علي البحر المتوسط من خلال قاعدته في طرطوس السورية.
وإلى حديث مقبل قريب بإذن الله...
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة