ما يتبقى من العلاقات الشديدة الخصوصية بين الرؤساء والمشايخ هى تلك الحكايات الشيقة التى يتم تداولها بعد ذلك بسنوات طويلة.
الرئيس الراحل أنور السادات من أكثر الرؤساء الذين كانت لهم علاقات جيدة بالمشايخ فى مصر وقرب عدد لا بأس منهم اليه والى مجالسه الخاصة فى القاهرة وخارجها وخاصة خلال ذهابه إلى قريته ميت أبو الكوم بمحافظة المنوفية.
من بين الذين ارتبطوا بعلاقة قوية مع الرئيس الراحل الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الازهر والداعية الشيخ محمد متولى الشعراوى، والشيخ سيد النقشبندى.
من أجمل وأطرف الحكايات التى تروى عن علاقة السادات وسلطان المداحين الشيخ سيد النقشبندى يذكرها الدكتور محمود جامع مستشار السادات والأستاذ وجدى الحكيم رئيس اذاعة صوت العرب الأسبق فى مذكراتهما ولقاءاتهما الاعلامية.
فالرئيس الراحل كان لديه ميل خاص للفن منذ شبابه ويتذوق الغناء ويدندن به واستمرت هذه العلاقة حتى تولى مقاليد الحكم فى مصر، وقرب الكثير من الفنانين واليه . ويحكى أنه كان يستمع فى مجلسه وبجلبابه الشهير خلال اجازة قصيرة له فى ميت أبو الكوم الى ابتهالات ومدائح من الشيخ سيد النقشبندى. وبلغت به النشوة مبلغها من حلاوة الصوت وطلاوته الى طالما كان مغرما به.
فى هذه الليلة وربما كانت فى منتصف السبعينات تقريبا، انتهى الشيخ النقشبندى من ابتهالاته والرئيس السادات مازال غارقا فى نشوة الصوت النورانى المحلق فى سماء الابداع..وفجآة ارتفع بصوته " الله ..الله يا نقشبندى" ..ويقترب الشيخ من الرئيس ويدور حوار قصير بينهما يمدح فيه السادات النقشبندى ..ثم وبعد فترة صمت قليلة يوجه السادات كلامه مرة أخرى للشيخ وفجأة يقول له" والله يا شيخ سيد نفسى اسمع صوتك بألحان بليغ حمدى"
المفاجاة كانت بمثابة الصدمة للنقشبندى ولكنه فى حضرة الرئيس ولا يمكن ان يرد له طلب..فكيف له وهو حافظ القرآن ومنشد ومبتهل ومداح الرسول أن يغنى من ألحان هذا الشاب الذى لحن أغانى الحب والغرام والهيام لام كلثوم وعبد الحليم وشادية ونجاه وغيرهم..هل معقول أن يفعل ذلك..؟! أسئلة كثيرة دارت فى عقله قبل أن يومئ برأسه للرئيس ومتمتما بكلمات بالكاد سمعها السادات" ربنا يكرم ويقدرنا على فعل الخير يا سيادة الرئيس"
ينتهى اللقاء ويعود الشيخ للقاهرة والرئيس ينتظر أول لحن ..هنا استقبل التكليف الرئاسى وجدى الحكيم رئيس اذاعة صوت العرب وقتها والصديق لبليغ والمقرب ايضا من الرئيس السادات.
يقول وجدى الحكيم فى احدى حواراته التليفزيونية:" الرئيس السادات كلفى بأن أقنع الشيخ النقشبندي بان يؤدي ابتهالات علي موسيقي يتم تلحينها خصيصا له, فالشيخ كان قد تعود علي الابتهال بما يعرفه من المقامات الموسيقية, دون أن يكون هناك ملحن, وكان في اعتقاد الشيخ ان اللحن سيفسد حالة الخشوع التي تصاحب الابتهال، ولذلك كان رد الشيخ: علي آخر الزمن يا وجدي هاغني؟ في إشارة إلى الابتهال علي لحن مخصوص يجعل من الأنشودة أغنية."
وهكذا لجأ الحكيم إلي بليغ حمدي, وطلب منه إعداد إلحان خاصة للشيخ, ثم طلب من الشيخ أن يستمع إلي الألحان أولا, فإذا رفضها فلن يعاود الطلب منه علي الاطلاق. وكانت الاشارة بينهما- النقشبندى والحكيم- هى عمة الشيخ، فاذا اعجب باللحن خلع عمامته ووضعها بجانبه. الحكيم فوجئ أن الشيخ لم يخلع عمامته فقط بل جبته أيضا من شدة الاعجاب بألحان بليغ.
وما إن استمع الشيخ سيد إلي لحن مولاي, حتي قال للحكيم :" بليغ حمدى ده مش بني آدم. ده عبقرى" وهكذا ظهر ابتهال "مولاي انى ببابك".
ويعتقد نقاد الفن والغناء أن أهم ابتهال قدمه الشيخ سيد النقشبندي هو ابتهال مولاي.. إني ببابك, والحالة التي تنتاب المستمعين عندما ينطلق صوته: مولاي يا مولاي هي التى تدل على ذلك.
وتحولت علاقة التلحين والغناء بين الشيخ والملحن الى علاقة صداقة قوية واعجاب لا حد له وفتح له الباب للغناء من ألحان سيد مكاوى وحلمى أمين وعبد العظيم عبد الحق" وكلمات عبد الفتاح مصطفى.
ولد الشيح سيد النقشبندي بقرية دميرة التابعة لمركز طلخا بمحافظة الدقهلية عام 1920 وانتقل مع أسرنه إلي طهطا بمحافظة سوهاج، وحفظ القرآن الكريم وتربي تربية دينية ملؤها الحب لله ، محبا للابتهالات والمدائح النبوية .في طهطا حفظ القرآن الكريم وتعلم الإنشاد الديني في حلقات الذكر بين مريدي الطريقة النقشبندية، وكان والده الشيخ محمد النقشبندى هو شيخ الطريقة.
وفي يوم14 فبراير1976 سجل الشيخ أحد ابتهالاته بالإذاعة, وفي طريق عودته رحل في هدوء وهو يبلغ 56 سنة, وقد وجدوا في جيبه ورقة تقول: أشعر أنني سأموت اليوم, أوصيكم خيرا بزوجتي وأولادي. وكأنه يتنبأ بوفاته كما تنبأ بوفاة والده ـ عليهما رحمة الله.. ورحم الرئيس..
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة