يشغل حزب الله حيّزًا عريضًا وغير مفهوم فى الدولة اللبنانية، بل والمشهد الإقليمى بكامله، ويتحرّك طوال الوقت كما لو كان فرعًا للحرس الثورى أو المراجع الدينية الحاكمة فى إيران، والأغرب من التحركّات ما تشتمل عليه من تحالفات عجيبة، تتوزعّ بين المارونيين، والقوميين ذوى الهوى البعثى، وقوى اليسار الماركسى، وغيرها من أخلاطٍ لا رباط بينها، والاستثناء الوحيد القوى السُّنيّة المرتبطة بالحلف العربى المركزى فى القاهرة والرياض وأبوظبى، حتى لكأنّ الحزب ثغرة إيرانية فى المشهد العربى المُستقرّ، أو ثغرة عربية ينفذ منها مُشعلو الحرائق فى المشهد الإيرانى المرتبك!
تغريدة غريبة ألقاها جبران باسيل فى وجوه الجميع أواخر الأسبوع الماضى، صانعًا جدلاً مُلفتًا فى وقته وموضوعه، فوزير الخارجية الآتى من التيار الوطنى الحر/ المسيحى المارونى، الذى تزعمه العماد ميشال عون قبل توليه الرئاسة، هاجم اللاجئين والنازحين واعتبرهم فاسدين ومُحتلّين للبنان. مَكمن الغرابة ليس فى شعبويّة الحديث وعدم لياقته بمقام الدبلوماسية، وإنما الأغرب أن «باسيل» يدعم حاليًا الجبهة التى تسبَّبت فى نزوح أكبر عدد من اللبنانيين منذ انتهاء الحرب الأهلية، فكأنه يدين نفسه وأُمراءه، من حيث أراد الطعن فى سوريا وأهلها.
قبل أيام من تغريدته، كان «باسيل» فى مقرّ «حزب الله» بالضاحية الجنوبية، وأهداه مقاتلو الحزب فارغ قذيفة من مُخلّفات حرب 2006. الهدية مثّلت تأكيدًا لما يتردَّد فى الشارع السياسى اللبنانى، عن تبعية وزير الخارجية للحزب الشيعى المدعوم من إيران، الذى تسبّب قبل ثلاث عشرة سنة فى مقتل وإصابة مئات المدنيين، وفى نزوح قرابة نصف المليون لبنانى، ممّن طالتهم أخيرًا نيران التغريدة الغريبة.
بالتأكيد يقصد «باسيل» آلاف السوريين الذين يقيمون على الأراضى اللبنانية منذ اندلاع الحرب الأهلية السورية ربيع العام 2011. ربّما يتصوّر أنه يقتصّ من النظام السورى البعثى الذى احتلّ لبنان قرابة ربع القرن حتى اغتيال رفيق الحريرى شتاء 2005، لكنه لم يلحظ أن وكلاءه فى حزب الله مسؤولون عن حصّة كبيرة ممّا عاناه السوريون، ويعانونه حتى الآن، بقدر مسؤوليّتهم عن كثير من أوجاع وانكسارات لبنان ومواطنيه.
تأسَّس الحزب فى 1982، وبدأ عمله العسكرى بعدها بثلاث سنوات، وحتى العام 2000 خاض مناوشات محدودة مع إسرائيل، ظلت فى حيّز اللعب المستقرّ، حتى أنهتها الأخيرة بقرار الانسحاب من الجنوب اللبنانى، عدا مزارع شبعا، وصمت الحزب تقريبا طوال ستّ سنوات، ناسيًا القضية وبقيّة الأرض، حتى قرَّر فجأة أن يُشعل فتيل الحرب فى يوليو 2006.
كانت إيران، الداعم والمموّل الأول للحزب، تخوض وقتها صراعًا مُحتدمًا مع الولايات المتحدة والقوى الدولية، على خلفية برنامجها النووى وتطوّراته المُتسارعة، وربّما سعت لفتح جبهة أخرى تُخفِّف الضغط عنها. وقتها نفّذ الحزب عملية غير محسوبة تمامًا، باختطاف جنديّين ووضع البلد بكامله على طاولة المُقامرة، ما سهّل للبرنامج النووى الإيرانى فرصة قطع أشواط واسعة على طريق الاكتمال.
امتدت الحرب 34 يومًا، خسر لبنان 1200 قتيل، وأكثر من 5000 جريح و500 ألف نازح باتجاه الشمال، وخسائر مادية تجاوزت 4 مليارات دولار، وهلَّل أحمدى نجاد عقب وقف القتال تطبيقًا لقرار مجلس الأمن 1701، معتبرًا دمار بيروت والجنوب انتصارًا، ربّما لأنه حقق مراد طهران فى صراعها على الجانب الآخر!
فى السنوات الأخيرة يتعامل الحزب كما لو كان دولة داخل الدولة، أو فوقها، يُسيطر على 140 معبرًا غير شرعى على الحدود البرية، وعلى مطار بيروت، وخطّ خارج الرقابة بميناء العاصمة، ويملك اقتصادًا ضخمًا لا تعرفه المؤسَّسات، منه مثلا 2.8 مليار دولار واردات من الصين مقابل 1.2 مليار للدولة الرسمية، وبينما يبلغ الدين اللبنانى العام 85 مليار دولار، جانب كبير منه بسبب عجز الكهرباء، لا يُسدّد الحزب أية ضرائب أو جمارك على وارداته أو تجارته، ويحصل أيضا على 700 مليون دولار دعمًا ماليًا سنويًّا من إيران.
الآن، تواجه إيران أزمة مُحتدمة توشك أن تنتهى إلى حرب، وعقوبات اقتصادية ترافقها اهتزازات داخلية فادحة للعملة والإنتاج ومعدلات البطالة والتضخّم، ما يُرجِّح أن تتوقّف عن ضخّ معونتها المالية لحزب الله، ويسعى الأخير لتعويضها على حساب لبنان واقتصاده، لكن الأخطر أن طهران ربما تبحث عن مَهرب من محنتها، بتسخين المنطقة أو تفجير قنبلة إقليمية لصرف الانتباه بعيدًا، وقتها سيكون حسن نصر الله أداة خامنئى والملالى لتنفيذ الخطة، سواء فى لبنان أو عبر أذرعه الممتدة فى سوريا وبين جماعات الحوثى اليمنية.
ربما تكون تغريدة «باسيل» بداية لإلهاء الساحة السياسية، ونكون بصدد مغامرة وشيكة من مغامرات حزب الله المعتادة، وبالنظر إلى تنامى قدراته المالية والعسكرية، قياسًا على حرب 2006، فإن غرور القوّة قد يقوده إلى هاوية سحيقة، للأسف سيشاركه لبنان أعباءها، وبينما سيُنقذ مقاتلو الحزب المغاوير عمائم سادتهم السوداء فى «قُم»، ويراكمون بمغامرتهم الجديدة التى لا تقل سوادًا، مزيدًا من المكاسب للتنظيم وأُمرائه، سيزيدون جراح اللبنانيين جُرحًا، للأسف المُوجِع، قد لا يندمل قريبًا.