ستظل أيام وليالى شهر رمضان المبارك بمثابة النبع الذى لا ينضب أبدًا وبئر الروحانيات المتدفق دائمًا بالروحانيات والمشاعر الفياضة، هذا النبع الذى كلما اغترفنا منه يزداد تدفقًا ويزداد روعة وجمالاً ليس هذا وحسب بل وقدم لنا أيضًا المزيد والمزيد من المشاعر النبيلة الممزوجة بطعم ليالى رمضان تلك الليالى التى تعيش بداخلنا بل تسرى فى عروقنا وأجسامنا مسرى الدم وذلك لارتباطها بوجداننا ارتباطًا وثيقًا .
وفى تقديرى فإنه من أهم ما يميز الليالى الرمضانية فى حياتنا تلك الظاهرة الجميلة التى يمكن أن نطلق عليها "لمة العيلة" أو تجمع الأسرة والأصدقاء فهذه العادة كانت ولا تزال وستظل أحد الأعمدة الأساسية التى ترتكز عليها الشخصية المصرية عبر العصور والتى كانت دائمًا بمثابة حائط الصد الأولى أمام محاولات طمس الهوية المصرية والاعتداء على القيم المتأصلة فى أعماق المجتمع.. فتجمع أفراد الأسرة فى رمضان هو فى حقيقة الأمر كان يمثل حالة فريدة لا وجود لها فى أى مكان فى العالم على هذا النحو من دفء المشاعر والروحانيات كما أننا كنا قد تربينا على أن لمة العيلة على الإفطار فى رمضان تساوى الدنيا بما فيها من إحساس بالسعادة والشعور بالفرحة فمن خلالها يستطيع الصائمون برؤية الأهل والأصدقاء الذين ربما نكون قد باعدت بينهم ظروف الحياة الصعبة وضغوط العمل وانشغال كا منا بحياته الخاصة هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى فإن تجمع الأجداد والأحفاد على مائدة واحدة فى شهر رمضان يحمل في طياته سرًا رئيسيًا من أسرار فرحتنا بمجيء الشهر المبارك وهذا الرأى لم يأت من فراغ بل هو كلام علمى دقيق حيث أثبتت الدراسات النفسية الحديثة أن تجمع أفراد الأسرة والعائلة بشكل دورى منتظم فإنه يحمل الكثير من الانعاكسات النفسية بشكل إيجابى على جميع أفراد الأسرة.
فضلاً عن ذلك فهناك العديد من الدراسات العلمية التى أشادت بالحرص على تجمع العائلة في رمضان وكان هدف تلك الأبحاث هو دراسة العلاقة بين أوقات تجمع الأسرة لتناول الطعام معًًا وبين المشاكل النفسية والسلوكية المختلفة خاصة لدى أفراد الأسرة الأصغر سنًا.
وحينما ألفت النظر هنا نحو تجمع الأسرة والدعوة للمة العيلة فإننى أعنى أن يكون جميع أفراد الأسرة أو أغلبهم على أقل تقدير مجتمعين معًا في وقت واحد لتناول الإفطار أو السحور على مائدة واحدة وبشرط أن تكون الأجواء العائلية فى هذه اللحظات تتسم بالود والحب بين جميع الأفراد.
هذا من الناحية العلمية والنفسية ولكن هناك دافع آخر وراء الدعوة للمة العيلة فى رمضان وهو الدافع الدينى حيث يحضنا ديننا الحنيف على إشاعة الحب والود والوئام بين أفراد الأسرة كما اهتم الإسلام أيضًا بضرورة خلق حالة من الترابط الأسري فى المجتمع لأن ترابط المجتمع وسر قوته يعتمد فى المقام الأول على ترابط الأسرة فإن لم تكن الأسرة مترابطة أصيب المجتمع كله بخلل شديد بل إننا فى هذه الحالة سوف نكون أمام مأزق كبير ليس على المستوى الأسري فحسب بل على مستوى المجتمع كله خاصة أن المجتمع يتكون من مجموعة من الأسر، ومن هنا فإن علماء الاجتماع يؤكدون فى هذا الأمر أن المجتمع ما هو إلا عبارة عن فرد مكرر ومن ثم فإن الأسرة تشكل الوحدة المحورية في بناء هذا المجتمع فضلاً عن أنها هى الأساس في استمراره في الوجود.
وبينما كنت أكتب حول موضوع لمة الأسرة وتجمع العائلة خلال شهر رمضان انتابتنى حالة من الحزن الشديد على ما وصل إليه المجتمع من تفسخ فى العلاقات الاجتماعية بل وتحول أفراد الأسرة الواحدة إلى ما يشبه الجزر المنعزلة خاصة أن كل شخص أصبح يعيش فى عالمه الخاص بعيدًا عن بقية أفراد الأسرة.. فضلاً عن ذلك فقد تفشت بيننا ظواهر اجتماعية سلبية لم نكن نعرفها من قبل وذلك نتيحة انتشار صفات الحقيد والغل والكراهية .
فأين ذهبت المودة والرحمة.. وأين ذهبت المحبة.. وأين ذهبت راحة البال.. أليس ديننا الحنيف يدعونا إلى كل تلك الصفات النبيلة.. ويحضنا على الافتراف من روحانيات الشهر الفضيل بما يعود بالنفع على الأفراد والمجتمعات .
ليتنا نتخذ من أيام وليالى شهر رمضان فرصة لأن يقترب كل منا نحو الآخر وأن نعيد بداخلنا اكتشاف تلك الأجواء الروحانية التى كانت تميزنا عن كل شعوب العالم ونحاول أن تجعلها فى صدارة حياتنا الآن.
وأعتقد أن ذلك ليس بالأمر الصعب أو المستحيل.. فقط نحن فى حاجه لأن نحيي بداخلنا الأشياء الجميلة التى بكل تأكيد لن تكلفنا أى شىء فى حين أنها وبكل تأكيد سوف تعود علينا بالكثير والكثير من النتائج الإيجابية .