منذ تسعينيات القرن الماضى اهتمت الدولة بالصعيد، ذلك أن مفكرين وكتاب وخبراء أكدوا أن الاهتمام بالخدمات وتوصيل المرافق أحد أبرز وسائل القضاء على الإرهاب الذى اجتاح الجنوب وفى القلب منه محافظتى أسيوط والمنيا.
فى التسعينيات شيدت الحكومة الطرق التى شقت الزراعات وأدخلت مرافق الكهرباء والمياه والتليفونات الأرضية والمجارى، وشاهد مواطنون التلفزيون لأول مرة وهم فى نهاية حياتهم، وكان بديهيا أن يغير كل ذلك مفاهيم وعادات قبلية توارثتها الأجيال وأنهكتهم وفى مقدمتها الثأر الذى حل محل القصاص المختص به القضاء.
سنوات قليلة بعد ذلك وحدثت الطفرة الهائلة فى الاتصالات، فظهر الهاتف المحمول الذى بمرور الوقت أصبح بحوزة جميع أهل الصعيد رجالا ونساء وأطفالا، واستخدموه فى معاملاتهم اليومية المشروعة تماما، كما استخدموه فى الخلافات الثأرية.
وزادت وسائل التواصل الاجتماعى وفى مقدمتها "فيس بوك" الطين بلة، حيث تحول الموقع الاجتماعى إلى ساحة تفاخر بين العائلات ومجالا للمكايدة وإشعال الفتنة فتجد أطفال وشباب العائلة ينشرون صورا للأسلحة التى بحوزتهم لإخافة الخصوم كما ينشرون "بوستات" لاستعراض القوة وإعلان الشماتة والتشفى فى العائلة المتناحرة مع عائلتهم بعد قتل أحد أفرادها أو أكثر.
على أى حال نجح الصعايدة فى تسخير الهاتف المحمول والفيس بوك لصالح الجريمة الُثأرية من خلال عدة محاور هى:
• سهولة رصد تحركات الخصم للثأر منه: فى الماضى كان الراغب فى الثأر يعتم على مقابلات شخصية مع أناس يميلون له فيخبرونه بأن خصمه غدا سيتواجد فى السوق أو أنه سيشارك فى فرح صديقه بعد أسبوع، وهذه المعلومات لم تكن كافية وربما غير مجدية، فلربما تراجع المستهدف عن الذهاب إلى المكان المقرر سلفا وربما ذهب قبل الموعد المقرر بساعة، لكن مع وجود الهاتف المحمول أصبحت المعلومة أكثر دقة وسرعة فبمجرد خروج الضحية من بيته يتم إبلاغ الجانى فيستهدفه مباشرة ويقتله.
• تسجيل المكالمات لإثارة الفتنة وخلق خصومات جديدة: فى ظل التناحر الثأرى تحول البعض إلى أداة فتنة فاستخدم الهاتف المحمول فى تسجيل المكالمات التى يسب فيها شخص آخر ثم إسماعها للمعتدى عليه لفظيا فتشيط الصدور ويشتد الصراع ويبدأ التخطيط للانتقام.
• إفشال الحملات الأمنية فى القبض على المطلوبين وحائزى الأسلحة: لك أن تتخيل أن الاتصالات تبدأ منذ انطلاق الحملة من ديوان مركز أو قسم الشرطة فتجد مثلا شخص يتصل بالمستهدف ويخبره بأن سيارة الشرطة فى الطريق إلية، والواقع أن هذا ضاعف معاناة رجال الأمن بالصعيد اللذين اضطروا إلى اتخاذ احتياطات كبيرة منها استخدام سيارات ربع نقل وميكروباصات وأحيانا توك توك.
• الاستفزاز واستعراض القوة والمكايدة: أطفال وشباب العائلة التى ينتمى لها القاتل ترفع شعارات القوة والجبروت وعندما تثأر عائلة القتيل يرد أبنائها بذات الأسلوب والواقع يكمن فى أن الاستفزاز والمكايدة واستعراض القزة يدفع أهل القتيل إلى الثأر سريعا لتشتعل القرى فى الصعيد وترتوى الأرض بدماء الشباب والشيوخ.
هكذا سخر كثير من أهلنا ثورة الاتصالات، فى دعم التخلف وفى القلب منه ظاهرة الثأر ونشر الفوضى وسفك الدماء، فهل يعقل هذا؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة