يعد الإجهاض قضية مجتمعية متشعبة ذات أبعاد إنسانية ودينية، حتى أصبحت هذه العملية الطبية محل جدال فى كثير من الشعوب، ولم تتوقف عند هذا الحد بل تحولت إلى قضية سياسية أيضًا لها مؤيديها ومعارضيها من السياسيين والحكام فى عدة بلدان حول العالم بمختلف أديانها وثقافاتها.
هذا الملف المجتمعى الشائك عادة ما يعكس لنا مدى تجذر القيم الإنسانية والدينية أيضًا فى الشعوب التى يجد الخلاف طريقة لها حول قضية الإجهاض، كونها تتعلق بقرار ينتج عنه إزهاق روح أو إتاحة الفرصة لإنسان جديد يأتى إلى الحياة، لذا فإن كثير من الدول تضع قوانين وتشريعات صارمة للحد من هذه العملية وتجرمها بعقوبات رادعة تتخطى الغرامة المالية إلى السجن لسنوات طويلة، وذلك رغم وجود تيار معارض والذين يرون الأمر هو جزء من الحريات الشخصية.
الولايات المتحدة الأمريكية، هى واحدة من الدول التى مرت بتاريخ طويل من الصراع المجتمعى والسياسى فى ملف الإجهاض ما بين رؤساء جمهوريون يشددون العقوبات على من يجرى تلك العمليات، وآخرون ديمقراطيون يخففون من وطأة قوانين وتشريعات أسلافهم ويتيحون الحرية للنساء فى اختيار إجراء عملية الإجهاض من عدمه.
مسيرة أمريكية ضد الإجهاض
ويبدو أن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب المنتمى للحزب الجمهورى، قرر أن يسير على خطى أسلافه من قيادات الحزب، وأن يندفع بقوة نحو اشتباك جديد مع خصومه الديمقراطيين، بل ومع قطاع كبير من المجتمع الأمريكى من المنتمين إلى التيارات العلمانية حول مسألة الحق فى الإجهاض، فى ظل خطوات متسارعة تتخذها الإدارة الأمريكية الحالية فى المرحلة الراهنة لحظر الإجهاض فى الداخل الأمريكى، بعد عقود طويلة من الجدل حول أحقية المرأة فى الولايات المتحدة بإجهاض نفسها، وهو الأمر الذى تسمح به القوانين الأمريكية فى الوقت الحالى.
ترامب قرر أن يخوض المعركة بنفسه، مع تنامى الاحتجاجات بصورة كبيرة فى ولاية ألباما الأمريكية، عبر تغريدات، جاءت فى أعقاب مظاهرات حاشدة احتجاجا على حظر الإجهاض، حيث أكد خلالها أنه لن يتم السماح بالإجهاض إلا فى حالات معينة، وهى الاغتصاب أو سفاح المحارم أو إذا كان بقاء الجنين يمثل خطورة على حياة الأم، وهو الأمر الذى يمثل انعكاسا صريحا لموقفه من القضية، والذى سبق وأن أعلنه منذ حملته الانتخابية فى 2016.
ويعتبر القانون الجديد، بموجبه الإجهاض جريمة قد تؤدى إلى سجن الأطباء الذين ينفذونه لمدة تتراوح بين 10 و99 عاماً، ولن تعتبر عمليات الإجهاض قانونيّة إلا إذا كان هناك تهديد على حياة الأم أو إذا كان الجنين محكوماً عليه بالموت.
حظر الإجهاض.. ترامب يجيش القضاء بمعتنقى أفكاره
خطوات الإدارة الأمريكية لتمرير القوانين حول حظر الإجهاض بدأت منذ تنصيب الرئيس دونالد ترامب فى البيت الأبيض، فى يناير 2017، حيث تحرك بقوة نحو تجييش المؤسسات القضائية بالعناصر التى تعتنق أفكاره، وعلى رأسها المحكمة العليا الأمريكية، حيث كانت خطوة تقاعد القاضى الأمريكى البارز أنتونى كينيدى - المعروف بدعمه لحق المرأة فى إجهاض جنينها - تسير فى الاتجاه الذى حدده ترامب، وهو أن يصبح أغلبية أعضاء المحكمة من المؤمنين بأفكاره المناهضة للإجهاض، وهو ما بدأ واضحًا فى القرار الذى اتخذته المحكمة فى العام الماضى، بعدم دستورية القوانين التى تسمح بالإجهاض فى ولاية كاليفورنيا الأمريكية.
المحكمة العليا الأمريكية
القرار القضائى يمثل انتصارا كبيرا للتيار المناهض للإجهاض فى الولايات المتحدة، حيث يعتبرون أن القوانين الأمريكية المؤيدة للإجهاض تتعارض بصورة كبيرة مع حرية الوعى التى ينص عليها الدستور الأمريكى، إلا أن هذا القرار لم يكن ليتحقق بأى حال من الأحوال فى وجود القاضى كينيدى، والذى يميل إلى الرؤى العلمانية فيما يتعلق بالقضايا الاجتماعية، وعلى رأسها الحق فى الإجهاض، وحقوق المثليين، وغير ذلك من القضايا التى تثير امتعاض الجناح المحافظ وربما قطاع يمثل أغلبية المجتمع الأمريكى.
وهنا تلوح الفرصة الذهبية أمام الولايات ذات الأغلبية المحافظة للجوء إلى المحكمة العليا من أجل تحقيق المزيد من الانتصارات فى المرحلة المقبلة فيما يتعلق بحظر الإجهاض، وهو الأمر الذى تحقق بالفعل فى 4 ولايات، تحظى بأغلبية جمهورية، وهى ألاباما، وجورجيا ونورث داكوتا وآيوا.
مباركة الكنيسة.. ترامب يصبغ توجهاته بالنزعة المسيحية
ويمثل توجه إدارة ترامب نحو حظر الإجهاض بمثابة امتداد صريح لسعيه المتواصل لمغازلة القطاع المتدين فى المجتمع الأمريكى، وهو ما بدا واضحًا فى خطاب مسئولى الإدارة فى العديد من المناسبات، حيث سعى الرئيس ترامب لوضع نفسه باعتباره "المدافع" عن العقيدة المسيحية، والمحافظ على تقاليدها فى المجتمع الأمريكى، وهو الأمر الذى يحظى بقبول كبير من قبل القيادات الدينية، وخاصة بالكنيسة الإنجيلية الأمريكية.
ترامب يحظى بمباركة رجال الدين
وفى تصريح سابق له خلال الاحتفال بـ"اليوم الوطنى للصلاة" فى البيت الأبيض، قال ترامب، مستبقا قانون حظر الإجهاض فى ألاباما، "نحن نبنى معا ثقافة تعتز بكرامة الحياة البشرية وقدرتها. كل طفل يولد أو حتى جنينا، هو هدية مقدسة من الله".
وهنا يصبح استدعاء العبارات الدينية واضحا فى حديث ترامب، لتبرير رؤيته القائمة على رفض الإجهاض، بحيث يفوز بمباركة الكنيسة الإنجيلية الأمريكية، والتى تعد أقوى المؤسسات الدينية فى الولايات المتحدة، وأكثرها نفوذا، لخطواته، بعدما حظى بدعم المؤسسة القضائية الأعلى فى أمريكا، ليصبح قرار إدارته ذو شرعية دينية إلى جانب شرعيته السياسية والقضائية.
قضية "رو & ويد".. فتاة أمريكية تدعى اغتصابها لإجهاض جنينها
وبالعودة قليلًا إلى تاريخ تطور ملف الإجهاض فى التاريخ السياسى الأمريكى، نجد أن أشهر محطة له كانت مع قضية "رو & ويد" "Roe v. wade" عام 1973 والتى صدر بموجبها تشريع يعطى النساء حق الإجهاض بصورة قانونية، طالما أن الجنين لا يعتبر على قيد الحياة، أى يمكن إجراء الإجهاض حتى الأسبوع الـ24 من الحمل.
ويرتبط قرار "رو & ويد" بقصة سيدة أمريكية تدعى نورما مكور، كانت تبلغ من العمر 21 عام، حيث اكتشفت أن حامل للمرة الثالثة، بينما كانت لا ترغب فى استمرار حملها، فنصحها اصدقائها بالإدعاء كذبا أنها تعرضت للاغتصاب، للحصول على الحق فى الإجهاض، حيث كانت تمنع قوانين ولاية تكساس الأمريكية الإجهاض إلا لأسباب معينة، إلا أن الحيلة فشلت لأن إثبات جريمة الاغتصاب يتطلب تحقيق قانونى، يثبت الواقعة، وهو الأمر الذى لم يكن متوفرا، كما أن قوانين الولاية لم تكن تضع الاغتصاب بين الأسباب التى تسمح بالإجهاض.
حملات داعمة للإجهاض تزامنا مع قضية رو اند ويد
ولجأت الفتاة الأمريكية إلى رفع قضية عن طريق المحامى كوفى أند ويدينجتون ضد مدعى ولاية تكساس ويدعى هنرى ويد، حيث اعترفت المدعية أنها لم تتعرض للاغتصاب، وهنا أصدرت المحكمة قرارها بأن القانون المعتمد فى تكساس ليس دستوريا.
فبموجب قرار "رو"، قسمت المحكمة حمل المرأة إلى ثلاثة مراحل، الأولى منها فى الأشهر الثلاثة الأولى، حيث يكون قرار الإجهاض وفقًا لتقدير المرأة، والمرحلة الثانية فتتمثل فى الثلث الثانى من الحمل، وهنا يمكن للدولة تنظيم الإجراء، ولكن لا تحظر الإجهاض، أما المرحلة الثالثة والأخيرة، فهى فى الثلث الأخير من الحمل، عندما يعتبر الجنين "قابلاً للحياة"، وفى هذه المرحلة سُمح للدولة بتنظيم أو حظر الإجهاض، مما يسمح بالاستثناءات عندما تكون صحة الأم فى خطر، وبالتالى فإن هذا القانون كان أخف وطأة من القانون الصادر حديثًا فى عهد ترامب.
ولكن الجمهوريون لم يستسلموا أمام هذا التشريع وأعادوا الكرة مرة تلو الأخرى، ففى العام 1984 وضعت قاعدة سياسية ثابتة سميت بـ"سياسة مكسيكو سيتى" – خلال عهد الرئيس الجمهورى رونالد ريجان - والتى طلبت من المنظمات غير الحكومية الأجنبية التى تتلقى مساعدات صحية عالمية من الولايات المتحدة أن تؤكد أنها لا تستخدم التمويل غير الأمريكى فى ما يلى، تقديم خدمات الإجهاض، تقديم الاستشارة للمريضات حول خيار الإجهاض أو إحالتهن للإجهاض، الدعوة إلى تحرير قوانين الإجهاض.
ما هى سياسية "مكسيكو سيتى" التى واجه بها ترامب الإجهاض؟
"سياسية مكسيكو سيتى"، هى قاعدة أعاد الرئيس ترامب العمل بها حيث أصدر مذكرة رئاسية بشأن"سياسية مكسيكو سيتى"، خلال الأسبوع الأول من ولايته فى العام 2017، وتلاه موافقة وزير الخارجية ريكس تيلرسون فى 15 مايو، على خطة اسمها "حماية الحياة فى المساعدات الصحية العالمية" لتنفيذ هذا التوسع، بحيث يحظر قانون الولايات المتحدة استخدام المساعدات الخارجية الأمريكية للأنشطة المتعلقة بالإجهاض منذ عام 1973.
كما يتضمن تاريخ جهود المجتمع والرؤساء الأمريكيين، محطة أخرى فى العام 1992 – خلال عهد الرئيس الجمهورى جورج بوش الأب - حيث سعت الولايات ومجموعات المصالح لإلغاء الحكم الصادر فى العام 1973 أو تقييد الوصول بشكل أكبر، حتى وصلت واحدة من هذه الجهود إلى المحكمة العليا فى عام 1992، وهى قضية تسمى تنظيم الأسرة فى جنوب شرق ولاية بنسلفانيا ضد كاسي، وقضى القضاة خلالها بإعادة تأكيد قانون Roe v. Wade، لكنهم أيدوا عددًا قليلًا من اللوائح، بما فى ذلك فترة انتظار لمدة 24 ساعة وشرط أن يحصل القاصرون على موافقة أحد الوالدين على الأقل قبل إجراء عملية الإجهاض، وأصبح هذا الحكم بالفعل انتصار فى ملف الإجهاض.
ريجان وبوش اتخذا نهجا مناوئا للإجهاض
واللافت للنظر هنا أنه منذ صدور قانون Roe v. Wade، وأصبح وضع تلك القضية تبادلى، بحيث يتزامن صعود التيار المناهض للإجهاض مع وجود رئيس جمهورى فى البيت الأبيض مثل الرئيس رونالد ريجان فى العام 1984، والرئيس بوش الأب فى العام 1992، وكما هو الحال عليه الآن، فى ظل عهد الرئيس الجمهورى دونالد ترامب، بينما يتم التراخى فى مواجهة الإجهاض فى عهد الرؤساء الديمقراطيين.
ويثبت هذا مرة أخرى فى عهد الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، الذى قلص أثناء فترة رئاسته الأولى، من برامج تحديد النسل ودفع ببرامج التربية الجنسية القائمة "على العفة فقط"، كما وقع على قانون يجرم بعض إجراءات الإجهاض الشائعة فى فترة ما بعد الأسبوع الـ12 من الحمل أو التى تؤدى إلى إصابة الجنين، كما عين أكثر من 200 قاضٍ معادين للإجهاض فى المحاكم الفيدرالية، كذلك كان يعارض وزير العدل ووزير الصحة والخدمات البشرية فى إدارة بوش الإبقاء على الإجهاض قانونيا.
بعيدا عن السياسة.. الفن والمجتمع يدعمان رؤية ترامب
ولكن يبقى التساؤل حول الرؤية المجتمعية لمسألة الإجهاض بعيدًا عن التوجهات الحزبية والسياسية، أو حتى الدينية، فعلى عكس الانطباع السائد لدى الكثير من المجتمعات الشرقية حول مباركة الشعب الأمريكى لفكرة الإجهاض، فإن الواقع ربما لا يؤيد مثل هذه الرؤية، حيث ارتفعت الأصوات المناهضة للإجهاض فى العديد من المناسبات، سواء من قبل الساسة أو حتى نجوم الفن الذين قدموا أعمالا تبرز خطورة مثل هذه العمليات، ودعوا إلى مكافحتها.
ولعل فيلم "أنبلاند" " Unplanned" الذى أنتج فى العالم 2019، وهو آخر الأعمال الفنية الأمريكية التى ناقشت مسألة الإجهاض، بينما حظى بإقبال كبير، على غير المتوقع، حيث تمكن من منافسة العديد من الأفلام ذات السيط العالمى، وعلى رأسها "كابتن مارفل" و"دامبو"، وغيرها، ليحقق المركز الرابع من حيث إقبال الجماهير عليه فى الأسبوع الأول من شهر أبريل الماضى.
ويناقش الفيلم قصة سيدة كانت تعمل فى عيادة متخصصة تعمل فى مجال الإجهاض، إلا أنها قررت اتخاذ منحى أخر بمعارضة مثل هذه الممارسات بعد ذلك، حيث حظى الفيلم بتأييد كبير سواء داخل المجتمع فى ظل الإقبال غير المتوقع على شباك التذاكر، وكذلك من قبل الساسة، وعلى رأسهم نائب الرئيس الأمريكى مايك بنس، والذى قرر تأييد الفيلم عبر تغريدة على حسابه بموقع التواصل الاجتماعى "تويتر"، معتبرا أن مثل هذه القصص تقدم دعما صريحا لقدسية الحياة.
أفلام هوليود تناقش قضية الإجهاض
وقبل فيلم "أنبلاند" " Unplanned"، نجد أن قضية الإجهاض شغلت بال المجتمع الأمريكى وصناع السينما فى هوليود بشكل كبير، حيث أنتج عدد كبير من الأفلام منذ أواخر ستينيات القرن الماضى والتى ناقشت جميعها هذا الملف وانتقضت بشدة إقدام النساء على الإجهاض أو تشجيع الأزواج لهن على تلك الفعلة، ومنها أفلام " The Last American Virgin" عام 1982، و " Daddy's Gone A-Hunting" عام 1969، و " Choices" عام 1986، و " Dirty Dancing" عام 1987، و " Bella " عام 2006، و " Blue Valentine" عام 2010، و " Citizen Ruth" عام 1996، وغيرهم الكثير والكثير من الأفلام الأمريكية والعالمية التى ناقشت تلك القضية من مختلف الزوايا.
ولم يقتصر الدعم الذى تحظى به الخطوة الأمريكية التى تستهدف إلغاء القوانين الداعمة للحق فى الإجهاض عند هذا الحد، ولكنها امتدت إلى حملات دشنها قطاع كبير من النشطاء الأمريكيين، وعلى رأسها حملة "40 يوما من أجل الحياة"، والتى تحمل شعار "بداية النهاية للإجهاض"، وهو ما يمثل مباركة مجتمعية للخطوات التى اتخذتها إدارة ترامب مؤخرا.