مساء الخميس 6 فبراير 1964 حمل الراديو إلي ملايين المستمعين فى مختلف أنحاء الوطن العربي صوت الإذاعى الراحل جلال معوض، وهو يقدم للأغنية الثانية من حفل كوكب الشرق أم كلثوم، ويلقى بصوته، الذى كانت تحفظه الآذان العربية، مثلما تحفظ أصوات نجوم الغناء، ببعض من كلمات "أنت عمري"، ويعلن ولادة أول تعاون بين "الست" وبين موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، وهو التعاون الذي كان أيضا انطلاقا لسلسلة من الروائع المشتركة بين قمتي الغناء والموسيقي، يكفي أن نذكر من حلقاتها "أمل حياتى" و"فكروني" و"هذه ليلتي" و"دارت الأيام" و"أغدا القاك".
انطلاقة التعاون بين " الست" و"عبد الوهاب" بعد سنوات طوال ظلا يتربعان فيها علي عرش الطرب العربي من دون أن يلتقيا في عمل واحد ، تناولتها الكثير من القصص والروايات ، وكانت أكثر الروايات رواجا، أن إشارة البدء للتعاون بين العملاقين جاءت في لقاء جمع بينهما والرئيس الراحل جمال عبد الناصر عقب انتهاء الاحتفال السنوي بذكري ثورة 23 يوليو والمقام في عام 1963 بنادي ضباط القوات المسلحة ، وتحدث عبد الناصر في اللقاء الذي حضره أيضا عبد الحكيم عامر عن التعاون بين عبد الوهاب وأم كلثوم في عمل فني واحد، وهو ما رد عليه الاثنان بإبداء ترحيبهما بحدوثه ، وعلي الرغم مما طغي علي اللقاء من أجواء ودية، إلا أن كلمات ناصر جاءت بمثابة التكليف لنجمي الغناء العربي ، وكانت النتيجة رائعة "أنت عمري" التي كتب كلماتها أحمد شفيق كامل.
مراحل الإعداد للأغنية فى صورتها النهائية شهدت الكثير من الوقائع الشهيرة ، ووثقتها العشرات من الكتابات الصحفية والأحاديث الإعلامية، وبينها تدخل كل من الست وعبد الوهاب لتغيير بعض الكلمات والجمل التي اعترض عليها كل منهما في كلمات الأغنية الأصلية ، كاعتراض أم كلثوم على جملة "شوقوني عينيك لأيامي اللي راحوا" وطلبها تغييرها إلى "رجعوني عينيك لأيامي اللي راحوا"، وكذلك اعتراضها علي جملة " من حنان قلبي اللي بيشابي لحنانك " وطلبها تغييرها إلي " من حنان قلبي اللي طال شوقه لحنانك" ، كما اعترض عبد الوهاب بدوره على: " قد إيه من عمري قبلك راح وعدي .. راح كإن العمر قبلك ليلة واحدة.. ليلة من دمعي ومن نار الجراح"، وغيرها الشاعر أحمد شفيق كامل إلي " قد إيه من عمري قبلك راح وعدى.. ولا شاف القلب قبلك فرحة واحدة.. ولا داق في الدنيا غير طعم الجراح".
من واقعة "أنت عمرى" إلي ما جرى مع إطلاق رائعة "مولاى إني ببابك قد بسطت يدي.. من لى ألوذ به إلاك يا سندي" التي تغنى بها سلطان دولة التواشيح والابتهالات الشيخ سيد النقشبندي، وكانت المفاجأة أنها من تلحين عبقري النغم بليغ حمدى، أما الكلمات فهى للشاعر عبد الفتاح مصطفى، أما القاسم المشترك بين ولادة رائعتي "أنت عمرى" و"مولاى إني ببابك" أن الأولى جاءت نتاج لقاء كان طرفه عبد الناصر ، وأن الثانية جاءت بطلب واضح من الرئيس الراحل محمد أنور السادات ، والذي كان شغوفا بالإنشاد الديني ، وكان يحرص علي حضور الذي ذاع صيته في دنيا الابتهالات والإنشاد الديني للاحتفالات التي يقيمها في قريته ميت أبو الكوم ، أو في مناسبات عائلية ، وبينها احتفاله بخطبة احدي بناته في عام 1972 ، وهو الاحتفال الذي كان حاضرا فيها أيضا الملحن بليغ حمدي .
وبحسب رواية الإذاعى وجدى الحكيم فإن الرئيس السادات خاطب بليغ حمدى قائلا: "عاوز أسمعك مع النقشبندى"، فى تكليف رئاسي تضمن قيام الحكيم بفتح استديو الإذاعة للشيخ والملحن لتنفيذ ما أمر به الرئيس ، وهو الأمر الذي يحكي الحكيم أن النقشبندي قبله محرجا ، وأنه قال "بقي أنا علي آخر الزمن هاغني علي الألحان الراقصة " ، وبعد محاولات إقناع من وجدي الحكيم قبل الشيخ مضطرا أن يتوجه إلي الاستوديو وأن يستمع إلي ما لحنه بليغ ، وكان المشهد النهائي لتلك الواقعة بجلوس الشيخ علي أرضية الاستوديو مندهشا وهو يضرب كفا بكف بعد أن استمع إلي لحن " مولاي إني ببابك " وظل يردد " والله بليغ دا عفريت من الجن ".
في الواقعتين طلب الرئيس "عبد الناصر مرة والسادات في الأخري " من مبدعين تقديم انتاج مشترك ، صحيح أن الاستجابة كانت بدافع أن " الأمر الرئاسي صدر " ، لكن الشاهد في الأمر أنه حيثما كان توظيف الكفاءة في محله والاستفادة منها في أي مجال ، جاء الانتاج والإبداع مكافئا وممتد الأثر .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة