كان الجدل يتصاعد يوما بعد يوم فى الدوائر السياسية والشعبية والثقافية فى مصر، وشهدت وقائعه تكفيرا وإرهابا ومظاهرات لطلبة جامعة الأزهر، وسقوط جرحى من الطلاب ورجال الأمن، وبيانات فى مجلس الشعب، واصطفاف لجماعات التشدد الدينى، وفى مواجهتهم صرخات للتنويريين والمثقفين، وجعلت «جماعات التشدد» استقالة وزير الثقافة فاروق حسنى هدفا مركزيا، واستغلت منابر المساجد فى خطب الجمعة، وأصدر شيخ الأزهر بيانا، وتلقى النائب العام بلاغات، وكل ذلك بسبب نشر الهيئة العامة لقصور الثقافة رواية «وليمة لأعشاب البحر» للروائى السورى «حيدر حيدر»، ضمن سلسلة «آفاق الكتابة» فى نوفمبر 1999، بعد طبعها فى بيروت عام 1983
بدأ الحديث بشأن الرواية خافتا، بعد ثلاثة أشهر من إصدارها فى القاهرة، حيث نشرت صحيفة«الأسبوع» الأسبوعية، برئاسة التحريرمصطفى بكرى مقالا لحسن نور يوم 28 فبراير 2000 يعترض فيه على نشرها، وفى يوم 6 مارس رد الكاتب الراوئى خيرى شلبى رافضا آراء نور، ثم دخلت جريدة الشعب الأسبوعية «المتوقفة» لسان حال حزب العمل المعارض «المجمد» محرضة على العنف، بنشرها لمقالات الكاتب الدكتور محمد عباس حول الراوية، مطالبا بمحاكمة كل المسؤولين عن نشرها، واتهم مؤلفها بالكفروالإلحاد.
كان «حزب العمل» برئاسة المهندس إبراهيم شكرى يعيش وقتئذ صبغته «الإسلامية» بعد أن كان «حزب العمل الاشتراكى»، وكان عادل حسين رئيس تحرير «الشعب»، هو مهندس هذا التحول، وشغل فيما بعد موقع الأمين العام للحزب، وشهدت هذه الصبغة خوض الحزب وجماعة الإخوان وحزب الأحرار انتخابات مجلس الشعب بقائمة واحدة عام 1987 تحت شعار «الإسلام هو الحل»، وطبقا لهذا التحول مضى «العمل»، ومضت «الشعب» فى التعبير عنه، وكانت قضية «وليمة لأعشاب البحر» شاهدا، وبلغ الأمر بالجريدة حد وصفها للكتاب بأنه «إهانة أسوء من هزيمة 1948»، ووجهت اتهامات بالكفر للمسؤولين عن هيئة قصور الثقافة، على أبوشادى رئيسها، ومحمد كشيك أمين عام التحرير، وإبراهيم أصلان رئيس تحرير السلسلة، وحمدى أبوجليل مديرالتحرير.
وحسب «عباس» فى ملف توثيقى عما كتبه فى هذه القضية، ويحمل عنوان«ملف وليمة لأعشاب البحر»، فإنه بدأ يوم 28 أبريل عام 2000 بمقال عنوانه «من يبايعنى على الموت»، ويذكر أنه أثناء قراءته للراوية شعر بما لم يشعر به فى حياته..ويقول: «فى غمرة الانفعال قررت أن ألبس كفنا، وأتوجه لصلاة الجمعة فى الأزهر، ثم أصعد على المنبر لأصرخ فى الناس من يبايعنى على الموت أن يلبس كفنا ويصاحبنى إلى رئاسة الجمهورية لنفترش الأرض هناك، فإما أن يستجاب لنا بالدفاع عن الله والقرآن والرسول، صلى الله عليه وسلم، وإما أن يقتلونا».
قرر وزير الثقافة فاروق حسنى تشكيل لجنة للتحقيق، ضمت الدكتور أحمد هيكل، والناقد فاروق عبدالقادر، والكاتب الصحفى كامل زهيرى، والدكتور صلاح فضل، وفى يوم 30 أبريل 2000 أصدرت جماعة الإخوان بيانا، رفضت فيه هذه اللجنة، ودعت فيه للتصدى لكل من يحاولوا زعزعة العقيدة، أوتحريف الإيمان، ودعت النائب العام إلى التحقيق الفورى لكل من سمح بنشر الرواية، حسبما تذكر جريدة الحياة«لندن»فى 1 مايو 2000.
تصاعدت الأحداث بتظاهر آلاف من طلاب جامعة الأزهر مساء 7 مايو 2000، وأصيب فيها 3 ضباط و50 طالبا..
وطالب المتظاهرون بإقالة وزير الثقافة، حسب جريدة «البيان الإماراتية»، 8 مايو 2000، مضيفة: «قال الروائيان محمد البساطى وعزت قمحاوى اللذان شاهدا المظاهرة فى بدايتها أثناء عودتهما إلى منزليهما فى مدينة نصر، أنهما سألا أحد الطلاب عن سبب المظاهرة فأجاب: «لأن وزير الثقافة نشر رواية يشتم فيها الله».وسألاه هل قرأتها؟، فرد: لا ولكن أساتذتنا قالوا لنا عنها، وقرأنا ما كتبه عنها الدكتور عمر أحمد هاشم رئيس الجامعة».
كان «هاشم» رئيسا لجامعة الأزهر، ورئيسا للجنة الدينية فى مجلس الشعب، ووقف فى خندق المتشددين فى هذه المعركة، فحسب الملف التوثيقى لمحمد عباس: «قال الدكتور أحمد عمر هاشم فى حديث نشرته مجلة المصور الصادرة فى 25 مايو–مثل هذا اليوم-عام 2000، إنه كرئيس للجنة الدينية فى مجلس الشعب، مٌنع من إلقاء بيان يدافع فيه عن الله والقرآن والرسول، صلى الله عليه وسلم، بينما سمح لفاروق حسنى أن يلقى بيانه الذى يدافع فيه عمن يسبون الله والقرآن والرسول، صلى الله عليه وسلم، وردد «هاشم» فى ألم: حسبنا الله ونعم الوكيل».
كان«هاشم»يقصد بمن يدافع عنهم «حسنى»، الذين رفضوا حملة «الشعب»، فإبراهيم أصلان المشرف على السلسلة التى أصدرت الرواية، تساءل فى جريدة الحياة «1مايو 2000»عن مبررات هذه الضجة، واصفا القراءة التى قدمتها «الشعب» للرواية بأنها أبشع قراءة ممكنة لرواية فى تاريخ الأدب كله، وأن الرواية واحدة من أهم الروايات العربية، وصدر لها عشرات الطبعات وامتدحها نقاد معتبرون..وفى جريدة«البيان» 3 مايو 2000 قال صلاح فضل، إن الحملة لا تخدم سوى أصحابها، وقال الدكتور جابر عصفور، إن الرواية من أفضل الروايات العربية المعاصرة على الإطلاق، ومن يتهمونها بالكفر مجموعة من جماعات الضغط السياسى الذين يتقنعون تحت أقنعة دينية، ويتولون إرهاب المثقفين، وقال محمد البساطى: «رواية حيدر عمل فنى رائع».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة