إننا إذا تأملنا ببصيرتنا، وتدبرنا بعقولنا تشريعات الإسلام تكشفت لنا أسرار لا تتناهى من أسرار ذلك التشريع المعجز، ومنها أصل ثابت أصيل وهو إعداد الإنسان الصالح وبناؤه.
والصوم تشريع من تلك التشريعات التى جاءت من أجل تحقيق هذا الغرض، ولذا كان مفروضاً على الأمم السابقة ؛لأن مهمته الأساسية هى إعداد الإنسان أيا كان هذا الإنسان فى أى زمان وفى أى شريعة وهو كما جاء فى شريعة الإسلام يهدف إلى بناء صفة التقوى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ«.
والتقوى هى التى توصل الإنسان للهداية والعلم بمقاصد الإسلام، فالمتقون وحدهم هم اللذين يفوزن بالهداية، فلا هداية إلا بالتقوى، ولا تقوى إلا بإقامة الأركان التى تحقق مقاصد الشريعة ومنها الصوم الذى فرضه الله، عز وجل، لإصلاح حال العباد إذا هو العليم بما يؤثر فيهم، وبما يتأثرون به.
وقد اختص الله المسلمين بصوم رمضان وزاده، فضلاً بأن أنزل فيه القرآن الذى هو كل الهدى والنور للقلوب.
فإحياء شهر الصوم بالقرآن تلاوة وفهماً وتدبرًا وتأملًا ينشئ نور الهداية فى القلوب، ويعد إنساناً صالحًا لحمل الأمانة، إنساناً يكون الله فى قلبه بالدرجة الأولى، إنسانًا منتصرًا على شهواته.
فالصوم هو العبادة الوحيدة التى تكسر شهواتنا وتقطعنا عن الاستعباد لها، وتساعدنا على وصل قلوبنا بالله تعالى وتحمينا أن نكون كالأنعام أو أضل سبيلًا من الأنعام.
والصوم الحق الذى يورث التقوى صوم القلب والجوارح عن كل الشهوات قدر الطاقة، فالبطن تصوم عن الطعام، فإذا حل الإفطار أعطيناها ما يقيم الحياة دون زيادة فى كل أيام الشهر، والفرج يصوم إلا فى حدود ما أتاحه الشرع ، والعين تصوم عن النظر إلى الشهوات، والأذن عن استماع الشهوات، واليد والرجل كذلك، واللسان عن الغيبة والفحش، والقلب عن الحسد والغل والنفاق، فإذا استمر حال الإنسان هكذا ثلاثون يومًا كان هذا الوقت بهذه الهيئة كفيل بإعداد إنسان وفق ما أراد الله إنسان صالح لنفسه ولأمته ، إنسان يعول عليه فى بناء المجتمع وتنميته، إنسان قادر على صنع حضارة وإحداث نهضة، وهذا هو جوهر الصيام ومكمن العظمة فيه، وسر من أسرار تلك الشريعة البناءة، أما الله عز وجل فليس له حاجة فى حرماننا من الطعام والشراب والشهوات وهو غنى عن ذلك، وإنما كان هناك هدف أسمى ومقصد أعظم وحكمة جليلة وراء فرض الصيام فالصوم من معانيه إمساك عن مراد النفس جهادًا بها وترويضًا لوحشيتها، ومن هذا المعنى العظيم يصبح المجتمع محصنًا ضد الكوارث التى لا يمكن أن تحدث إلا عن مخالفة لنظام الكون الذى أراده الله .
إن عظمة هذا التشريع نابعة من أنه لا يفرض على الناس شيئًا من الأخلاق بطريق مباشر، وإنما يفرض عليه ما يوصله إلى هذه الأخلاق حتى يكون مؤمنًا مقتنعًا بما يفعل.
فاللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.