ستّ سنوات فقط، كانت كفيلةً بتبديد ميراث تسعة عقود. رُبّما لم يتصوّر أشدّ أعداء «الإخوان» تفاؤلاً، أن الجماعة قد تنزلق على المنحدر بتلك السهولة، خاصّة مع اقتناع نظام «مبارك» أنّها رقم صعب فى المُعادلتين الاجتماعية والسياسية، ثم تسريبها تلك القناعة المُلفّقة إلى وعى خصومها من اليسار والتيّارات الليبرالية، إلى الحدِّ الذى بدا معه أنهم يُسلِّمون بهيمنتها على المجال العام، ولا يرون سبيلاً للعبور إلا من بوّابتها، أو بقبولها على الأقل. لذا كان انقضاء هذا الوهم صدمةً كبرى للخصوم، رُبّما بقدرٍ أكبر من صدمة الجماعة نفسها.
مشهد «الإخوان» الراهن ليس بسيطًا كما يتخيّل المُتابعون، أو يتوهّم قادة التنظيم. فى الوجه الظاهر تبدو كُتلةً صلبة فى مواجهةٍ سياسية مُحدَّدة المعالم، وباعتبارها أدمنت حياة المظلوميّة وفقه الأزمة، فإن تلك المُعادلة تضمن لها بقاء طويلاً، مع صيانة هيكلها العام، وقواعدها المُتمدِّدة إقليميًّا وعالميًّا. هذا التصوُّر يملأ أذهان القادة المُتصارعين فى قرابة عشرة مراكز تحتضن شتات التنظيم، لكن فى الواقع تبدو الصورة أكثر تعقيدًا، فـ«الإخوان» لم تعد جماعة بقوام متماسك، وبِنيةٍ عُنقودية مُترابطة الأوصال، وإنّما تحلَّلت أُفقيًّا ورأسيًّا، لتُصبح أطيافًا وجماعات، ولا تزال تنقسم على نفسها فى مُتوالية لا يُعرَف مداها. أقرب التقديرات الآن تُؤكِّد اشتباك سبعين تيّارًا أو يزيد ضمن الجسد العجوز، تتقاطع فى ملفّات، وتُقاطِع بعضها فى ملفّات أخرى، ويومًا بعد يوم تتعمَّق صراعاتها، وتضمر روابطها، ويقودها التفسُّخ الفكرى والارتباك التنظيمى إلى مزيدٍ من الانقسامات.
فى مصر، ضربت الشقوق جسد الجماعة، وفصلت أجزاءه الآن تضيع الكتلة الأكبر من الشُّعَب والمكاتب الإدارية فى زحام السيولة التنظيمية وصراعات القادة، مُوزَّعةً بين ستة أجنحة: المُتمسِّكين بالصيغة البنيويّة القديمة وأفكار حسن البنا، والموالين للتيّار القُطبى وبَيعة محمد بديع المُنتقلة للقائم بعمله محمود عزت، وتابعى مكتب تركيا بقيادة محمود حسين وأحمد عبدالرحمن، والمدعومين من التيار المصرى الصاعد ضمن بِنية التنظيم الدولى عقب نزوح 2013 بهندسة رَمزَى الحرس القديم إبراهيم منير وكمال الهلباوى، وعناصر حسم ولواء الثورة القابضين على عهد قائد الحراك المُسلَّح، القتيل محمد كمال، بدعمٍ من المجلس الثورى وبعض صقور الخارج، وأخيرًا الساعين للاستقلال عن الجسد القديم والانفراد بالجماعة، ممٌّن نظَّموا انتخابات أفرزت مجلس شورى ومكتبًا عامًّا أواخر2016.
فى تركيا نفسها، أكبر مراكز الإخوان الخارجية، تحلَّلت سطوة محمود حسين، وبزغ معارضون كُثر لهيمنته على قوافل النازحين عقب 30 يونيو. الآن يقبض على أقلّ من 30% من حيِّز الجماعة فى إسطنبول، بينما تتوزَّع النسبة الباقية على عدّة تيارات: جمال حشمت وداعموه بالمجلس الثورى، وأشرف عبدالغفار ورجاله فى أوروبا، وعبدالموجود درديرى ومجموعات الجمعيات الإسلامية والحقوقية بالولايات المتحدة، الأمر نفسه تكرَّر فى السودان وماليزيا وإندونيسيا ولندن، بصورٍ وتنويعاتٍ تتفاوت بحسب حضور التنظيم، وملاءته المالية، وعوائده فى المراكز الناشئة، وبقدر نجاح كل مجموعة فى توطيد حضورها التنظيمى والاقتصادى بالمجتمعات البديلة، تتولَّد صراعاتٌ جديدة بين عناصرها.
ما عصمَ الجماعة من الانقسام على نفسها، منذ صدامها الأول بالدولة المصرية، تمثّل فى مركزيّة التنظيم والقيادة، وما تبعها من سيطرة قلبٍ صُلبٍ على موارد الجماعة وأذرعها، لكن سياق الوفرة وتَعدُّد المراكز، دفعا بذور الشقاق، ومساحات الخلاف الداخلية، للبروز وتصدُّر الواجهة، وما لم تستعِد «الإخوان» مركزيّتها التنظيمية والمالية السابقة، فإنها ستواصل الانزلاق فى مسيرة التفكُّك والانقسام على نفسها!
النقطة الأخرى التى ضمنت عبور الجماعة للصدامات المُتكرِّرة مع الدولة، بدءًا من الحقبة الملكيّة حتى نظام «مبارك»، كانت وحدة الظهير الفكرى، وهيمنة مدوَّنة حسن البنا على ذهنيّة «الإخوان» وعقلها التنظيمى. الآن يبدو أن الميراث آخذٌ فى التبدُّد، بفضل ما أحدثه النمو المُتسارع لاقتصاديّات الصراعات الداخلية!
لعقودٍ طويلة كانت الموارد مُرتبطةً بمدخول الاشتراكات والتبرُّعات واستثمارات «الإخوان»، إضافة إلى تدفُّقات الأجنحة الدولية ومساندات بعض الدول، وكُلّها كانت محكومةً بتماسُك التنظيم، وهيمنة مكتب الإرشاد على شؤونه، وإقرار المراكز الخارجية بشرعيّة المُرشد ومقتضيات بَيعته. أى أنّ الجسد المَحلىّ استفاد من احتكار منصب المُرشد العام، وإذعان الفروع لمركزه المعنوىّ المُمثّل لعموم الجماعة، لكنّ أزمات 2013 وما تبعها من نزوحٍ وانقسامات، ألغت الوضعيّة الرمزية بما تُولِّده من مزايا، أوّلاً بتغييب المُرشد وراء القضبان فى قضايا جنائيّة، للمرّة الأولى فى تاريخ التنظيم، ثمّ تنازُع وجوهٍ عدّة على خلافة موقعه الروحى والسلطوى، وغياب الإقرار الإقليمى والعالمى بشرعيّة أىّ من المُتنازعين.
تلك الأزمة مثَّلت إسقاطًا مُباشرًا لأدبيّات «البنا»، إذ نقضت مُقتضيات البَيعة وقواعد انتقالها داخل التسلسل التنظيمى، فى الوقت الذى اعتمد فيه كلّ تيّار ناشئ مُدوّنةً تنظيميّة ومرجعيّات فقهية تخصّه، بالحذف والإضافة لأفكار المُؤسِّس، أو استبعادها تمامًا لصالح رؤىً جديدةٍ أفرزتها الصراعات، تتبنَّى بإخلاصٍ عميقٍ أهدافًا سياسية لأجهزة ودُول، فى الوقت الذى تأسَّست فيه استراتيجية «البنا» على المُناورة التكتيكيّة ظاهريًّا، وفى العُمق استهداف الحكومات والسعى لتفكيكها، وليس الإذعان لها أو النوم فى سريرها.
الآن، فقدت «الإخوان» كلَّ عناصر قوَّتها. تفكَّك جسدها المصرى الضخم، وتراجعت أدبيّات «البنا» لصالح التيار القطبى، المُعدَّل بأفكار مُنظِّرى الجماعة الإسلامية وفقه الميليشيّات وفتاوى القرضاوى فى نسخته الصهيو - أمريكية، والأهم أن فكرة القلب الصُّلب الذى ترتبط به كل الأطراف عضويًّا، ويحتكر الاتصال بالحلفاء والحكومات، غابت تمامًا لصالح مراكز ناشئة فى إسطنبول والدوحة وماليزيا وإندونيسيا والسودان والولايات المتحدة وعدّة دول أوروبية، كُلّها تملك قنوات اتصال بدول وأجهزة استخبارات، وتتوفّر لها منابع مالية وعوائد خاصّة.
العودة إلى الصيغة القديمة تعنى خسارة تلك المراكز وقادتها لوضعيّاتهم المُميَّزة، وتخلِّيهم عن الأدبيّات والعقائد التى يرون أنّها أخرجتهم من المعاناة الشخصية، أو قلَّصت جانبًا منها، وهو تنازلٌ لن يقبله الأباطرة الجُدد، لذا سيُواصلون تقوية مراكزهم، وخوض الصراعات المُتنامية يوميًّا، دفاعًا عنها، ما يعنى مزيدًا من الانقسام، ومزيدًا من التيّارات والأجنحة، وهو الأمر الذى قد يكون بداية النهاية للجماعة، على الأقلّ فى صورتها الكلاسيكية الموروثة، لصالح تجمّعات عديدة، سيتكفَّل الزمن والمجتمعات البديلة بهندستها، وصياغة أفكارها وفق ما يُناسبها، أو حصارها والقضاء عليها حال هدّدت ركائزها، لتنتهى قصّة «الإخوان» التى بدأت هنا قبل تسعة عقود، بمشاهد التّيه والشتات فى الحواضن الطارئة، ويُسدَل على جثّتها بالخارج ستارٌ غزله المصريون فى شوارع 30 يونيو!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة